المَوْصِل.. كم استغاثت واستجارت!

TT

المَوْصِل قطب العراق الشمالي، شأنها شأن قطبه الجنوبي البَصْرة، في ما حل بهما من موت أحمر. نرى التحرك لنجدتهما، وإن كان متأخراً، يُبرئ رئاسة الحكومة من لوثة الطائفية، وقد نجح نوري المالكي، على الرغم مما يتعرض له من ضغوط، داخل الائتلاف نفسه، في عكس هذه الصورة. ونجحت من جانبها جبهة التوافق في الموقف نفسه، وهي الأخرى تتعرض إلى حرب شرسة، لذا لا بد من دعم موقفها، وتسهيل عودتها إلى الحكومة.

بل أفلست حسابات المراهنين على الطائفية في أنها واقع حال. لقد جعلهم التحرك، لنجدة القطبين في الجغرافيا والمذهب، يراجعون غلواء المراهنة عليها، وتحويل العراق إلى غيتوات. ومن هنا لا بد من الحرص على تنفيذ قرار إخلاء البلاد من الميليشيات، الشاهرة سلاحها، والسابتة داخل مؤسسات الدولة، ومَنْ غايته التحرير ليقطع على المحتلين أعذار الحماية وبسط الأمن.

للمَوْصِل ربيعان، ربيع في الشتاء وآخر مع البلاد، وللجواهري: «أمَّ الربيعين يا مَنْ فقتِ حسنهما.. بثالث من شبابٍ مشرقٍ خضِل». واسمها منحوت من الوَصل، حار المفسرون: ألوَصلها بين دجلة والفرات! أم بين الجزيرة وبقية العراق! إلا أن الأكثر قبولاً أن المَوْصِل تسمية عربية بدأت عندما أوصل مروان بن محمد (قُتل 132هـ)، ضفتي دجلة بجسر، ومن قبل كانت مسمياتها: نينوى، ونواردشير، وحصن عبرايا.

وعُرفت بباب العراق، للقادمين من الشمال والغرب (معجم البلدان). ومن بعد دعاها مطران السريان الكاثوليك (1920) برأسه، فعندما أرادت تركيا قطعها أخذ يأتي المدرسة ويكتب أمام التلاميذ: «المَوْصِل رأس العراق لا يُقطع» (الأب قاشا عن وثائق كنسية). طالبت تركيا بها وقد تناست أن للعراق حقاً في ذمتها يقدر بأربعة قرون من الضرائب والمكوس وعمل السخرة! وها هي تُهدي العطش إلى المَوْصِل وبقية العراق بسدود هائلة، مع أنها ظلت جاراً نبيلاً قبل غاراتها على الشمال، وخنقها الماء.

بنى الإرهابيون بأرض المَوْصِل كهوفاً من الظلمات، يغزون مدنها وقراها تحت جنح الليل البهيم، قتلوا من مثقفيها، وأكاديمييها، ومن أديانها ومذاهبها، وهي الأرض المطرزة بأهل العراق كافة، وكم استغاثت واستجارت! حتى كانت أبشع الكوارث قتل خمسمئة أيزيدي من سكانها في غارة واحدة. أُعلن فيها ما يسمى بالإمارة الإسلامية، وكأن تاريخ المَوْصِل المسلم، الذي بدأ منذ 16 هجرية، كان خارج الإسلام! عشش فيها أنصار السُنَّة بجيشهم، وهم من عرب وكورد، والأخيرون كانوا جند الإسلام، ثم أنصار الإسلام، وقد حاولوا من قبل الانطلاق من وديان وجبال العراق، ولعل البيئة الجبلية وقراءة ظواهر النصوص بتحجر ساعدتهم على التشبه بالنموذج الأفغاني.

ومثلما صال الزرقاوي (قُتل 2006) على رقاب العراقيين، أخذ يصول خليفته المصري تارة، والبغدادي والشافعي تارة أخرى، على رقاب المَوْصِليين، يظهر مزهواً بما لديه من أدوات الخراب. قلما من ديار الدنيا لم تُحتل وتُغزى، وتناضل لتحرير نفسها، لكن لم نعرف لمثل هذه المقاومة نموذجاً، أن تهدم أثراً، مثلما حدث لمنارة عانة، أو تفجر قبة مثلما حدث لقبة سامراء، أو تقتل شرطياً يُسير المرور، أو خبازاً وأطفالاً ينتظرون الرغيف ببابه، أو تستخدم الحمير والكلاب والأجنة والمجانين في التفجيرات.

واجه عبد القادر الجزائري (ت 1883) جلف عساكر فرنسا، ولم يقتل موظفاً أو ساعي بريد، أو مترجماً. وقاوم غاندي (قتل 1948) جبروت البريطانيين من دون إجادة استخدام البندقية! وركب جيفارا (قُتل 1967) من الأرجنتين وقاتل بكوبا ثم تركها إلى بوليفيا، ووعد أن يأتي فلسطين، لكن لم يلوث مقاومته بقتل طفل أو تفجير سوق! ولم تسجل ثورة العشرين بالعراق من قَبل، ولا حركات الكفاح العربية والكوردية، من بعد، حادثة مشينة، مثلما تفعل (المقاومة) بالمَوصِل وديالى، وما فعلته الميلشيات ببغداد والبَصْرة، والجميع يضع رسمة كتاب الله في شعاره، وهو القائل لمن يقتل الأبرياء، بفتاوى «التمترس»: «فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى»! أليست القسوة باسمه تَمارياً برحمته؟!

الأمل الآمِل، عودة المَوْصِل كما عهدها ابن حوقل النصيبي، زارها العام (358 هـ): «أسواقها واسعة، وأحوالها في الشرف والفخم ظاهرة... وكانت من عظم الشأن بصورة أكابر البلدان، وكان بها لكل جنس من الأسواق...» (صورة الأرض). أورد، لخصوبتها ورفاه عيشها، أبو سعيد الآبي (ت 421هـ) من مفاخرات الفتيان: «أصدقائي أكثر من حِنطة المَوْصِل»! و«... من خوص البَصَرْة»! و«... من قصب البطائح (الأهوار)» (نثر الدر)! ودارت الأيام وإذا الأمكنة الثلاثة لا حنطة، ولا خوص، ولا قصب! فالجميع من متعلقات الأمن والماء! ولا مشاريع سقاية، ولا أمن يسود، والمَوْصِل رأس العراق وبابه تَمُج دماً!

[email protected]