رجل ورصيف وطاولة مقهى!

TT

أدين ويدين معي الكثيرون من أبناء جيلي، لبائع كتب كان يفترش الرصيف في جدة القديمة ليبيع الكتب والمجلات الثقافية التي سبق استخدامها بقروش.. عبر ذلك الرجل تعرفنا على طه حسين، والعقاد، والمازني، والمنفلوطي، والرافعي، وجبران، وميخائيل نعيمة، حتى «نيتشه» وكتابه «هكذا تكلم زرادشت» كان يشارك هؤلاء العباقرة الرصيف..

وكان الرجل على درجة عالية من الثقافة، وهو يقول في تواضع: «إنه مثقف رغم أنفه»، وإنه بحكم عمله كبائع كتب كان عليه أن يطلع على أجزاء من كل كتاب لتقدير قيمته، ومن كل هذه الأجزاء تشكلت ثقافته ومعارفه، ومواقفه تجاه مختلف القضايا.. وكان إذا ما انطفأ نهار المدينة يحمل الرجل كتبه وتعبه لتحتضنه الدروب إلى نهايتها الباهتة، وكنت استبقيه حينا لنتقاسم إبريقا من الشاي في ذلك المقهى العتيق على الرصيف الآخر من الشارع.. في تلك الجلسات كان يسكب الرجل ذكريات عمره على طاولة المقهى، وهو يحدثني عن لقائه الأول مع الكتب، حينما اشترى من ورثة أحد المثقفين بدراهمه القليلة كل كتب المرحوم، فأغلق على نفسه باب داره، وراح يقرأها كتابا بعد آخر حتى انتهى من قراءتها، فشعر بحاجته إلى مبادلتها مع آخرين للاطلاع على المزيد من الكتب، ووجد نفسه في النهاية على الرصيف يحترف بيع الكتب القديمة.. وفي إحدى تلك المرات أعارني كراسة صغيرة عليها بعض شعره ونثره، أذكر أن الدهشة سيطرت علي، وأنا اكتشف أن الرجل لم يكن مجرد بائع كتب، بل إنسان مبدع أدركته حرفة الأدب فاكتوى بنارها..

حينما اختفى من الشارع ذات صباح وجدوه يرقد على السرير الأبيض في مستشفى المدينة الوحيد آنذاك، وحينما أسلم الروح يقال إن قبضته كانت تطبق على كتاب قديم، مجهول المؤلف، ولا غلاف له..

واليوم في كل مرة استحضر فيها صورة ذلك الرجل، أتمنى لو أن أمانة جدة تتبني من جديد فكرة مكتبات الأرصفة في جزء من المنطقة التاريخية، بعد أن قام مفتشو الأمانة في بعض الأزمنة بمطاردة هؤلاء حتى انقطع أثرهم من أسواقنا، وخلت المدينة القديمة لحوانيت «كل شيء بريال»..

في الكثير من عواصم العالم المتقدم هناك أماكن خاصة لمكتبات الأرصفة، التي تبيع الكتب المستخدمة بأسعار زهيدة، ويستفيد منها ملايين القراء من أصحاب الدخول المحدودة، وتنشأ الحاجة إلى مثل هذه المكتبات لمواجهة الارتفاع في سعر الكتاب، ولكي لا يصبح حال الكتاب كحال الشوكولاته الفاخرة حكرا على الأثرياء..

فهل ثمة أمل في إشغال أجزاء من أرصفتنا العتيقة التي تتمخطر عليها الجرذان والقطط بسلسلة من مكتبات الأرصفة التي تعيد الحضور الثقافي لقلب المدينة؟

[email protected]