الأردن: لسنا على مفترق طرق.. ونحن مع الاعتدال وضد الكنفدرالية!

TT

في غضون نحو أسبوعين فقط، عقد العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني اجتماعين حضرهما وشارك فيهما عدد من كبار المسؤولين وكبار قادة الرأي العام، الأول انعقد في الديوان الملكي وحضره ثلاثة من قادة الإخوان المسلمين. والثاني، الذي جاء بعد عيد الاستقلال مباشرة، انعقد في مبنى رئاسة الوزراء وحضره بعض رؤساء الحكومات السابقين الأعضاء في مجلس الأعيان ورؤساء كل لجان البرلمان الأردني، بالإضافة الى رئيس الحكومة الحالية المهندس نادر الذهبي ومدير المخابرات العامة ورئيس الديوان الملكي. قبل هذين الاجتماعين، طفحت الساحة الأردنية بالأقاويل والإشاعات التي مصدرها بعض «المتقاعدين» السياسيين وبعض الأحزاب المعارضة، المصابة بحول دائم تجاه إيجابيات الأردن، والتي دأبت منذ منتصف تسعينات القـرن الماضي وحتى الآن على تضخيمات سلبيات هذا البلد، وقام بترويجها ونشرها عدد من الصحافيين والكتاب الذين كانوا أعلنوا مبكراً انحيازهم إلى ما يسمى حلف «الممانعة» وخاضوا بأقلامهم وحناجرهم المعركة الى جانب حسن نصر الله وحزبه في انقلابه ضد بيروت الغربية. بدأت هذه الهجمة، التي يُقسم بعض الذين قاوموها ووقفوا ضدها أنها من صنع الأذرع الأمنية لتحالف «الممانعة» والمنضوين في إطاره والمستظلين بظله، بإثارة عدد من القضايا الداخلية المتعلقة بالاستثمار. ولذلك ولإثارة الأردنيين الذين يُعتبر التمسك بالأرض بالنسبة لهم أحد أهم «نواميسهم» الأخلاقية والوطنية، فقد وضعوا هذا كله تحت عنوان صارخ جداً هو «الأردن للبيع»!! ونسجوا قصصاً بنوها على إشاعات من صنعهم هم حول مستشفى المدينة الطبية الذي يعتبر معلماً حضارياً كبيراً، والذي شهد أول عملية قلب مفتوح في الشرق الأوسط كله، وحول المبنى الجديد للقيادة العامة للقوات المسلحة الذي بعد إتمام بنائه، اكتشف أصحاب العلاقة ان موقعه غير مناسب، وأنه لا بد من استبداله بموقع آخر يكون خارج دائرة الزحف المستمر للعاصمة عمان وخارج حزام الأحياء السكانية.

في هذا الوقت الذي اشتدت فيه هذه الهجمة، التي ذهبت بعيداً في الاتهامات التي وصلت حدود التخوين في بعض الحالات، كانت حرب حسن نصر الله على بيروت الغربية تقترب من نهايتها، وكانت وساطة الدوحة قد بدأت تحركاتها على الأرض. وهذا جعل «هؤلاء» يخرجون بنتيجة تجسدت أعمدة ومقالات يومية في بعض الصحف الأردنية تقول ان انقلاب حزب الله على بيروت الغربية ألحق هزيمة بالولايات المتحدة وبدول محور الاعتدال، مصر والأردن والمملكة العربية السعودية، وأنه بناءً على ذلك من المفترض ان ينقل الأردن بندقيته من كتفٍ الى الكتف الآخر، وأن يعيد النظر في تحالفاته الحالية.

لقد وجد هؤلاء، الذين أرسل بعضهم مذكرة ولاءٍ وتأييد للسيد حسن نصر الله في ذروة حربه على بيروت الغربية، ان الفرصة غدت ملائمة، وأنه لا بد من حشر ليس الحكومة فقط وإنما الدولة الأردنية كلها في الزاوية، واستخدام الأوضاع الاقتصادية المتأثرة بارتفاع أسعار النفط وبأزمة الغذاء العالمية لابتزاز الأردن سياسياً وإلزامه تحت ضغط الرأي العام بأن يعيد النظر في تحالفه العربي ويخرج من محور دول الاعتدال، وأن يقف في منتصف المسافة بين السلطة الوطنية الفلسطينية و«حماس»، وأن يقترب من دمشق وإيران وأطراف «فسطاط الممانعة والمقاومة» على حساب علاقاته العربية الأخرى.

وإمعاناً في السعي لحشد الرأي العام الأردني المـُسْتفزِّ أساساً بارتفاع الأسعار فقد استنجد «هؤلاء» بالفزاعة القديمة الجديدة، التي يحرص المناهضون لدعم الأردن للرئيس الفلسطيني محمود عباس والسلطة الوطنية على الاستنجاد بها كلما شعروا أن حركة «حماس» بحاجة الى العون والمساندة. وهي ان هناك نيات أميركية ـ إسرائيلية تدعمها بعض أوساط منظمة التحرير للعودة الى حل الكنفدرالية مع الضفة الغربية لاستيعاب مشكلة الشعب الفلسطيني في إطار هذه الكنفدرالية أو الفيدرالية ولتخليص إسرائيل من «بعبع» الدولة المستقلة.

ولذلك، ولقطع الطريق على كل هذه الإشاعات والقصص «المفبركة»، التي في ظل الارتفاع الجنوني لأسعار النفط وأسعار المواد الغذائية أدت الى بعض الإرباكات والى الكثير من المخاوف في أوساط الأردنيين، كان هذان الاجتماعان اللذان كان حديث الملك عبد الله الثاني فيهما حاسماً وواضحاً وصريحاً كعادته:

أولاً، غير صحيح إطلاقاً ان الأردن أصبح، بعد انقلاب حـزب الله على بيروت الغربية، على مفترق طرق، وغير صحيح ان محور الاعتدال العربي انهزم. فالموقف الأردني المبني على خيار واعٍ وصحيح لا يزال على ما هو عليه، وأن الذي انهزم هو التطرف وليس الاعتدال، وأن العلاقات مع الدول الشقيقة التي توضع في إطار هذا المحور متينة وراسخة وغير مطروحة لا للمراجعة ولا لإعادة النظر.

ثانياً، إن انحياز الأردن للسلطة الوطنية ومحمود عباس هو انحياز لخط سياسي، عنوانه إقامة الدولة المستقلة على كل الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967، ولذلك ولأن «حماس» تناهض هذا الخط وتحاول تدميره فإنه أمر طبيعي وعادي ان يكون الموقف منها هو هذا الموقف.

ثالثاً: إن الأردن، رغم كل الصعوبات التي يواجهها ورغم ارتفاع الأسعار والمأزق الاقتصادي العالمي، ليس على مفترق طرق ولا يمر بأي أزمة فعلية، لا اقتصاديا ولا سياسياً، وهو سيشهد منذ الآن وحتى نهاية هذا العام تقدماً مهما، وخاصة بالنسبة للحالة الاقتصادية. لقد كانت هذه رسالة واضحة لكل المشككين، في الداخل والخارج، فالخيار الأردني هو الاعتدال ورفض العنف والتطرف، في فلسطين والعراق ولبنان وفي كل مكان، وهو بالنسبة للقضية الفلسطينية الدولة المستقلة.. ولا للفيدرالية والكنفدرالية مجدداً والى أن يقرر الشعب الفلسطيني مصيره بنفسه ويقيم دولته المستقلة هذه.. والأردن بخير وأوضاعه من الناحية السياسية والاقتصادية مستقرة ومن أفضل الأوضاع في معظم دول المنطقة.

إن هذا هو الموقف الأردني تجاه هذه القضايا الداخلية والإقليمية كلها، ولذلك فإن ما يجب ذكره في هذا المجال هو ان هناك عقليات رجعية ومتحجرة ترفض التقدم والتلاؤم مع استحقاقات القرن الواحد والعشرين. والمزعج على هذا الصعيد ان أصحاب الأجندات الخارجية والارتباطات المشبوهة أحزاباً وأفراداً يستغلون النوازع الطيبة والساذجة لدى أصحاب هذه العقليات ليلقوا المزيد من الأشواك في طريق الحركة الاستثمارية وحركة التحديث والإصلاح التي رغم كل ما يشهده الإقليم من توترات إلا أنها حققت نجاحات حقيقية وفعلية كثيرة.

لا شك ان الأردنيين معهم كل الحق في ان ينظروا بعيون الريبة الى بعض عمليات الاستثمار في قطاع العقارات والأراضي. فجرح فلسطين لا يزال حاضراً في الأذهان وتسلل الوكالات اليهودية قبل قيام دولة إسرائيل لشراء بعض الأراضي الفلسطينية جاء عبر هذه النافذة، لكن ومع كل التقدير لهذا وفهمه ووضعه في خانة الحس الوطني، إلا أنه يجب ألا تتحول هذه المخاوف الى «فوبيا» تتحول مع الوقت الى عنصر مقاومة ورفضٍ للعملية الاستثمارية التي هي موضع رهان الأردن، وهو يواجه كل هذه التحديات الاقتصادية.