هل تعيد بعض الأطراف اللبنانية النظر في مواقفها؟

TT

لن يكون خروج أي طرف من الأطراف السياسية اللبنانية عن الاجماع الذي ولدته تسوية الدوحة سهلاً، ليس من باب المحاسبة السياسية أو الشعبية التي قد يتعرض لها هذا الطرف بل من باب تحمل مسؤولية إعادة الأمور إلى الوراء، أي إلى مرحلة التأزم الذي أرادت كل القوى الخروج منه بالسرعة اللازمة، خصوصاً تلك التي بادرت إلى إشعال الحرب في الشوارع.

ولقد زاد تكريس إتجاه التسوية، طبعاً بالاضافة إلى المعطيات الدولية والاقليمية التي دفعت بهذا الاتجاه، الخطاب الشامل لرئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان الذي جاء ليرسم ملامح مرحلة جديدة الغلبة الطبيعية فيها لبناء مشروع الدولة. ولعل هذا ما دفع حزب الله إلى الرد، وبصورة استباقية، بعنف على طرح الاستراتيجية الدفاعية.

إلا أنه مهما تنوعت محاولات التذاكي على المسائل الاستراتيجية والدفاعية، فلا بد أن يصل اللبنانيون إلى اليوم الذي توضع فيه كل هذه النقاشات على الطاولة بعيداً عن المغامرات العسكرية كالتي شهدتها العاصمة بيروت والجبل في الآونة الأخيرة والتي أكدت استحالة تطبيق نظرية تغيير المعادلات السياسية بالقوة، أقله في لبنان وصيغته المتنوعة.

كما أنه بمعزل عن محاولات تبرير الأعمال العسكرية التي شهدها لبنان فإن ذلك لن يمحو بسرعة الآثار النفسية والاجتماعية والسياسية التي خلفتها تلك الأحداث المفتعلة، فالأكيد أن مرحلة ما بعد الأحداث أقل في التوصيف السياسي لمواقع القوى السياسية اللبنانية ومواقفها ستكون مختلفة نوعياً عما سبقها. فالقوى التي طالما أكدت أنها لن تحول سلاحها إلى الداخل سقطت من بين يديها هذه المقولة، وسعت للبحث عن أسباب تبريرية أخرى لسلاحها فاستولدت نظرية الاستراتيجية المزدوجة في التحرير والدفاع.

لا شك أن تولي مهمة الدفاع العسكري عن أي وطن مسألة في غاية الأهمية، إلا أن الغريب إصرار بعض القوى على احتكار هذه الوظيفة إلى حد منع الجهات الرسمية المختصة بذلك من القيام بواجباتها في هذا المجال أسوة بكل دول العالم. فحتى لو كانت كل النيات صافية وكانت الأهداف الحقيقية تصب في إطار الدفاع الوطني بشكل منزه بالمطلق عن أية اعتبارات عقائدية أو إقليمية، فإن القبول بهذا المنطق من شأنه أن يؤسس لـ«تخصيص» قطاعي لكل وظائف الدولة.

فما الذي يمنع فريقا ما أن يقول إنه يملك معرفة اقتصادية واسعة، على سبيل المثال، من أن يتقدم غداً ليقول للبنانيين إنه الممر الحصري والوحيد للتنمية الاقتصادية في البلد، أو فريقا آخر يقول إنه الوحيد الذي يعرف محاربة الفساد أو آخر يهتم بالقضايا الاجتماعية، وهكذا دواليك.

أين تكون عندئذ وحدة الدولة وسيادتها وقدرتها على احتكار وظائف معينة دون سواها؟ إذن، المسألة ليست مسألة تخوين أو اتهام بالعمالة، بقدر ما هي قراءة واقعية موضوعية للاحداث والتطورات.

لا يمكن تصور أن أية دولة في العالم، حتى تلك التي تدعم حزب الله في لبنان، تقبل باستثناءات مشابهة لتلك التي تشجع هي استمرارها في لبنان. فهل رأينا دولة لديها دويلة مترامية الخدمات ضمن أراضيها تتحداها في صلب وظائفها ونشاطاتها؟

لا بد للقوى التي قالت بالمقاومة في السابق من أن تدرك أن البوتقة الوطنية اللبنانية هي الوحيدة الحاضنة لها ولتجربتها لأنها مرتبطة بالوطن والارض والدم والاجتماع والسكن، بينما الأطراف الأخرى الداعمة لها، فإنها تفعل ذلك حصراً من قبيل مصالحها الخاصة وهي قاعدة بدائية في استراتيجيات الدول ومصالحها.

غريب كيف تتنصل بعض القوى من الاحتضان الوطني الذي كان يلفها وتبرر نظرتها لعدم وجوده، مقابل الاستمرار في البحث عن جهات داعمة على المستوى الاقليمي، البعض منها طعنها في ظهرها عندما اغتال أحد قادتها ولا يزال يتلكأ في تقديم نتائج التحقيق.

لعلها فرصة مناسبة أن تعيد تلك القوى النظر في مواقفها السابقة وتتكيف مع المرحلة الجديدة التي عجّلت هي في صدور معالمها الأولى من خلال الحملة العسكرية على بيروت والجبل، فتستفيد من المناخ الجديد الذي برز في لبنان بعد اتفاق الدوحة وبعد انتخاب الرئيس اللبناني الجديد الذي قدم خطاباً وطنياً جامعاً يؤسس لمرحلة جديدة بكل المعاني.

فهل تستطيع هذه القوى تقديم نفسها بصورة جديدة وقراءة جديدة للمتغيرات أم أنها حديدية في التفكير كما هي حديدية في التنفيذ؟

* مفوض الإعلام في الحزب التقدمي الاشتراكي، رئيس تحرير جريدة «الأنباء» اللبنانية