هل الحوار مفقود في عالمنا العربي؟!

TT

من طبيعة الحوار، أنه يفرز عادة مواقف متباينة وطروحات مختلفة وتوجهات متناقضة، وهذا يكشف لنا عن كينونته المدمجة المؤثرة في يومنا المعيش، وعن مدى ارتكازه كعمود من الأعمدة الرئيسية التي تستند إليها البنية الفكرية والثقافية لأي مجتمع.

على أن نتاجاته المتمخضة عنه مختلفة باختلاف الزمن والناس والطبقات التي يتألف منها المجتمع، فالمفاهيم التي قد تسمعها في مجلس يضم مجموعة مثقفين، وهي بمثابة طروحات ورؤى، لا يعني بالضرورة توفر مضمونها في مجلس قروي بسيط، إلا أنها تبقى في نهاية المطاف حوارا له سلبياته وإيجابياته، وهو رأي يقابله رأي آخر أو مخالف له في التعبير عن القضية التي تدور في فلك أي من المجلسين بغض النظر عن قيمتها المذهبية أو الفكرية أو الآيديولوجية.

وطالما أخذت مناقشة هذه القضية أو تلك حيزا واسعا لطرح بنّاء وموضوعي متأصل بالحجج والبراهين، فإنها بذلك تساهم في خلق حوار صحي وتحفّز على تلاقح الأفكار، لا سيما في ظل تمسكها بمقوماته الأساسية، كالإصغاء واحترام الرأي الآخر، فما تلبث أن تكرس النتيجة سلوكا حضاريا يتجاوز مرحلة إبراز الذات ويعانق السمو والعمق.

بيد أن البعض يجعل من ذلك الحوار فرصة للسيطرة والتباهي والإصرار على اليقينية ورفض الانتقاد واستهجان الرأي الآخر، وهذا يعود في ما أعتقد إلى بنيتهم الثقافية التي لا تستسيغ الفكر المخالف لطرحها أو الرؤية المتعارضة معها، وكأن لها إطارا محددا لا تسمح لكائن من ما كان بتجاوزه أو المساس به، وإن كانت هذه الفئة لا تعبر عن السلوك السائد للمجتمع، إلا إنها تبقى جزءا من تركيبته الثقافية ومؤثرا في سلوكه الاجتماعي. ولعل هذا ما دعا بعض المثقفين العرب الى أن تعلو أصواتهم متهمين من يدعو إلى تكريس أحادية الرأي بتمزيق العقل العربي وتشويهه، مما جعله يقف موقف الرفض أو التشكيك إزاء الرأي الآخر لأنه يرى فيه تهديدا لأمنه أو لمذهبه أو لحزبه.

ومن يتأمل التاريخ يلحظ أن الأنظمة والأحزاب والمؤسسات السياسية العربية مارست نفي «الآخر» وإرهابه، ولعل الانقلابات العسكرية والتصفيات الدموية والمؤامرات المنظمة، كانت أبرز ما ميز السياسية العربية في النصف الثاني من القرن الفائت، كما أن من يتأمل المشهد الراهن يلمح إلى أي مدى كرست «الأصولية» هذا النمط من الفكر الأحادي. وتبقى الحقيقة الماثلة للعيان أن العقلية العربية تعاني من أزمة حوار، بل من أزمة عدم الإصغاء، فيا ترى ما هو السبب؟

إن من يتنقل بين المنتديات والملتقيات العربية سيصل إلى قناعة واضحة وفي جعبتها إجابة كاملة حول الانكفاء والتعثر والانهزام الذي علق بالعقل العربي، حيث تبدو التصادمات الناشئة في حواراتهم مغلفة بكوم من عبارات اللاذع والتهكم والسخرية. الحقيقة أن مثل هذا الأمر قد يكون مفهوما في ما لو صدر من طبقة أو فئة جاهلة غير متعلمة، أما أن يصدر هذا من شريحة مثقفة ويفترض أن تكون هي نخبة وقدوة، فذلك هو الخزي بعينه. ويبدو أن عدوى لقاءات القيادات العربية السياسية قد انتقلت وبكل جسارة إلى عالم المثقفين وساحاتهم، مما يفضح واقعنا، كاشفا عن أزمة ثقة.

رب قائل يرى أن تراثنا العربي لا يقبل اندماجا مختلفا، وأنه ضد الرأي الآخر ويصوره في إطار البدعة والمؤامرة، وقد يكون في هذا الطرح بعض الصحة، إلا أن الطرح الأكثر صحة يرى في أن سبب هذه الانتكاسة هو القائمون على هذا التراث، من مفكرين ومثقفين وكتاب، لا التراث نفسه، وهو الذي يدعو في مجمله إلى التجديد من دون فقد الهوية.

إن الحل الناجع هو في إن نقبل الحوار كما هو، لا كما يراد له أن يكون، وعلينا أن نعترف بأن الأزمة ستبقى قائمة ما لم نرتكز على ثوابت الحوار ذاته، كالإصغاء للآخر والاعتراف بالاختلاف معه وإلغاء الرغبة المسعورة في إفنائه، وهذا يقتضى منا بالضرورة أن نركن إلى الاعتقاد بأهمية الحوار كركيزة في بناء ثقافتنا والنهوض بحضارتنا، منطلقين من زرع بذوره في أجيالنا الناشئة من أجل المنافسة في هذا العالم الذي لم يعد يرحم أو البقاء فيه على أقل تقدير.

www: zuhair-alharthi.8m.com