الدبلوماسية الدينية الجديدة

TT

في الوقت الذي يلتئم بمكة المكرمة حاليا المؤتمر الإسلامي العالمي للحوار الذي جسد المبادرة الحكيمة للملك عبد الله بن عبد العزيز الساعية لتوطيد سبل التواصل بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم و ارتياد آفاق الحوار بين المسلمين وغيرهم من أتباع الديانات الأخرى، يتعين التنبيه الى بعض جوانب الظاهرة الجديدة التي يمكن أن نطلق عليها «الدبلوماسية الدينية».

ونعني بهذه المقولة توجيه النظر الى دور الدين انتماء وثقافة في السياقات الاستراتيجية والسياسية الدولية، مما نلاحظه في مستويات عديدة، يتعين الإشارة الى بعضها. فمن الواضح ان الوعي يتزايد بأهمية توظيف الدين في العلاقات الدولية حتى في البلدان العلمانية العريقة.

ولا نعني هنا النظر في حضور العامل الديني في السياسات العامة والشؤون الداخلية، بل ببروزه كأحد الأجندة الرئيسية في العلاقات الدولية، مما يشكل دون شك نقطة تحول في فلسفة التصورات الدبلوماسية.

ففي النصف الثاني من القرن العشرين تشكلت الرؤية الدبلوماسية على محددات ثلاثة هي:

أولا: مقاربة الصراع الإيديولوجي (بين النظامين الليبرالي والاشتراكي) التي هي الإطار النظري للصراع الدولي.

ثانيا: توازن القوة القائم على نظام الردع النووي الذي رسم حدود الصدام الممكن بين القوى الدولية الرئيسية.

ثالثا: التكتلات الدفاعية الدولية التي هي في آن واحد ساحات المواجهة الخلفية بين القطبين المتصارعين و اطر الحراك الدبلوماسي لاحتواء الصدامات المحتملة.

ومع نهاية الحرب الباردة تغيرت جذريا هذه الرؤية، وأصبحت الدراسات الاستراتيجية تميل بطريقة غير مسبوقة للتركيز على العامل الثقافي الذي اعتبره عالم الاجتماع الفرنسي المشهور الان تورين «البراديغم» الجديد لفهم عالم اليوم. وقد انعكس هذا التحول في الدبلوماسية الدولية في اتجاهين بارزين: قانوني عكسه تمدد التشريعات الدولية الى الملفات الاجتماعية والقيمة كموضوعات المرأة والسكان وحقوق الإنسان.. وديني عكسه الاهتمام الجديد بالظاهرة الدينية في أبعادها المختلفة (الأصولية المتطرفة، والنزعات القومية القائمة على الخصوصية الدينية...).

ومن المؤشرات اللافتة للانتباه في هذا السياق دور المؤسسة الدينية في الشأن الدبلوماسي الذي بدا بارزا من خلال النشاط المكثف للبابا الكاثوليكي يوحنا بولس الثاني الذي كان احد أبطال «الثورة الليبرالية» في أوروبا الشرقية، وتميز بوجوده الواسع في الساحة الدولية كلها. كما أن الكنيسة الكاثوليكية نفسها قد عهد إليها بادوار محورية في تسوية النزاعات الداخلية الأفريقية.

وبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ظهرت في الولايات المتحدة الأمريكية مدرسة دبلوماسية مؤثرة في القرار السياسي، اعتبرت ان محاربة الإرهاب «الإسلامي» تتطلب الانفتاح على المؤسسة الدينية وإشراكها في تسوية صدام الصورة والمخيال القائم بين أمريكا والعالم الإسلامي. وقد انعكس هذا الاتجاه في توظيف بعض رجال الدين الأمريكان من المسلمين المعتدلين الذين لهم علاقات واسعة في العالم الإسلامي، وفي مشاريع بحثية ومبادرات سياسية ملموسة رمت الى الانفتاح حتى جميع الفاعلين في الحقل الديني بما فيهم على نشطاء الحركات الإسلامية غير العنيفة.

وبعد وصول ساركوزي الى السلطة رفع شعار الدبلوماسية الدينية الغريب في بلاد العلمانية، واعتبر ان للدين ورجاله دورا محوريا في الحفاظ على السلم العالمي وتقريب الشعوب بينها، بدلا من النظر اليه كعامل احتقان وصدام مما ولد جدلا واسعا في بلاده، في الوقت الذي تبنى فيه رئيس الحكومة الإسبانية زاباترو فكرة تحالف الحضارات من اجل السلم الدولي وفي مقدمة مرتكزاتها أهمية الدين والمؤسسة الدينية في هذا الائتلاف المنشود.

ومن الجلي اليوم ان دبلوماسية الحوار الديني في منطقتنا تتركز في مستويين، احدهما إسلامي داخلي، وثانيهما إسلامي ـ مسيحي، حتى لو كان الأمر في الواقع لا يتعلق بحوار عقدي قيمي، بل باشكالات سياسية صرفة.

فما يبدو لنا اليوم نذر فتنة سنية ـ شيعية لا مسؤولية فيه لرجال الدين من الطائفتين ولا يعكس توترا فكريا او مذهبيا، بل هو حصيلة التوظيف الخاطئ للمعطى الطائفي في السياسات الوطنية، وما يبدو لنا صراعا مسيحيا ـ إسلاميا بعد تصريحات بابا روما الجديد وهفواته المتكررة يعبر في الواقع عن أزمة داخليه في المؤسسة الكاثوليكية التي تعاني من مصاعب التراجع في فضائها الأصلي وجمود مشروعها الإصلاحي الذي بدأ مع المجمع الفاتيكاني الثاني.

فالدبلوماسية الدينية مطلوبة اليوم بقوة وإن كانت إشكالاتها ورهاناتها غير دينية.