زهرة الربيع

TT

في منتصف القرن العشرين ـ أي في الخمسينات الميلادية ـ ذهب رجل بدوي إلى لبنان، ولأول مرة في حياته تتكحل عينه بشجر الأرز وفساتين الصبايا، وفي ثاني يوم من وصوله دخل إلى أحد المطاعم ليتغدى، وعندما سأل «الغرسون» عن الخيارات، ذكر له مما ذكر أن هناك «خروفا محشيا»، وطلبه فوراً وإذا به يتفاجأ أن ذلك الخروف ما هو إلاّ قطعة لحم صغيرة مع حفنة قليلة من الأرز ـ وكان ما كان من احتجاجات وملاسنات.

وفي أحد الأفلام القديمة «بلاك أند وايت»، كسب الممثل «عادل إمام» ورقة يا نصيب وأصبح الفقير المعدم بين ليلة وضحاها مليونيراً، وأول ما خطر على باله أن يتعشى في أفخم مطعم، وأول طلب طلبه هو أن يأتوا له «بمعزة مشوية».

والحمد لله إنني لست بذلك البدوي، ولا بعادل إمام كذلك، لأنني لست من أكلة اللحوم الحيوانية.

المهم إنني أهوى احتساء «الشوربة» بجميع أنواعها، سواء كانت «المينستروني» على الطريقة الإيطالية، أو شوربة «البصل» على الطريقة الفرنسية، أو شوربة «الحب الرمضانية» على الطريقة السعودية، أو «الحريرة» على الطريقة المغربية، أو «البرش» على الطريقة الروسية، أو «الكويكر» على الطريقة الأميركية، أو «الكنسوميه» على الطريقة الإنجليزية، أو المخلوطة «بالأعشاب البحرية» على الطريقة اليابانية ـ وهذه الأخيرة مثلما ذكر لي أحدهم أنها تحتوي على خصائص منشطات ومقويات عضلية فعالة، ولكنني أعتقد أنه واهم، لأنني وثقت بكلامه وجربتها بحماس بالغ وأصبحت أتناولها كل يوم لمدة شهر كامل من دون أي اثر يذكر على أي عضلة من عضلاتي، بل بالعكس ـ الله لا يبارك فيها ـ فقد زادتني فوق خمولي خمولا أنيل وأزفت.

ومن غرامي وحبي للحساء أو «الشوربة» تتبعت تاريخها، وطرقات تحضيرها، التي أول ما ذكرت مكتوبة في البرديات الفرعونية، والمنقوشات البابلية قبل آلاف الأعوام من ميلاد المسيح.

ويقال إن المتسابقين في الألعاب الأولمبية في زمن الإغريق كانوا يتناولون قبل السباقات «الشوربة» المغلية «بإذناب الثيران» لتجعلهم أكثر قوة ـ ولا أعلم إلى الآن: ما دخل الذَنَب بالقوة؟!، وهل ما زالت «الأذناب» لها نفس الأهمية إلى وقتنا الحاضر؟!

أما الشوربة المجهزة بالمعلبات أو الباكيتات، فلم يعرفها العالم إلاّ في أواخر القرن التاسع عشر، ولا أنسى أنني عندما كنت «عزوبياً محترفاً»، أخذت أفطر وأتغدى وأتعشى على «بكيتات» شوربة «ماجي» التي لا يستغرق تحضيرها غير خمس دقائق، وكل من أراد أن يتناولها، فما عليه إلاّ أن يفتح العبوة ثم يلقيها في القدر المملوء بالماء المغلي، ثم يشربها عن بكرة أبيها إلى أن «ينسطح» وكان الله يحب المحسنين، وهو في هذه الحالة ينطبق عليه المثل القائل: «كزهّا وابرك عليها».

أما أروع طبقين لمن أراد أن يتناول «الشوربة» على أصولها، فهو حساء «زهرة الربيع» على الطريقة الصينية، وقد تناولته يوماً على العشاء ولم أنم تلك الليلة بطولها إلى أن طلع الصباح من كثرة ما غنيت من شدة الفرح والغبطة.

وأروع منه ذلك الطبق المسمّى «بأقمار الذهب فوق بحر من الفضة» ـ صحيح أن اسمه طويل، ولكنه بالفعل اسم على مسمى، فبخاره أول ما يسكب في طبقك يبعث على الطمأنينة، وهو مثلما يقال يطرد الهموم التي تراكمت عليك طوال النهار، إنه حقاً بسمة المائدة التي لا تعادلها غير ابتسامة من تقدم لك ذلك الطبق ـ هذا إذا كانت حسناء فاقع لونها ـ، أما إذا لم تكن كذلك فالأفضل لك أن تسكب أنت وتتناوله وحدك، وبين كل رشفة ملعقة وأخرى، عليك أن تنظر في المرآة وتبتسم لنفسك كأي متخلف أو مجنون.

[email protected]