قل للزمان: ارجع يا زمان

TT

سرينات البحر الصغيرة عادة ما تطلق أغنياتها على الشاطئ لتغري المراكب المبحرة على الاقتراب، وحينما تستجيب لغنائها وتقترب، تصدم بشعاب الشاطئ المرجانية وتتكسر، ويكون الغرق من نصيب البحارة.. وفي دواخل كل واحد منا سريناته الخاصة التي تغني فتغري الذاكرة على الجنوح إلى الماضي لتغرق على شواطئه، وما أكثر المرات التي مات فيها غرقا..

لقد قضيت طفولتي الأولى في بيت يتشكل من غرفتين فقط، تفترش الأسرة أرضه ليلا، فإذا ما بدأت خيوط الفجر الأولى في لملمة قطان العتمة كان على الجميع أن ينهض من فراشه ليفسح مكان نومه للأسرة لكي تعيش إيقاع حياتها اليومي، ولم تكن أحوال جل الناس في المدن آنذاك تختلف عن ظروف حياتنا، وكانت تلك المساحات الصغيرة التي نعيش فيها قصورا في عيوننا، أتذكرها وقد عبقت بروائح البخور والعطور، وازدانت جوانبها بالأرائك المرتفعة، وأرضها بالسجاجيد الملونة، وجدرانها بصور الآباء، والأجداد، وعنترة، والزير سالم، وأبي زيد الهلالي.. في تلك البيوت الصغيرة كانت تشاركنا السكن القناعة، والحب، وراحة البال، فعلى الموائد البسيطة يجتمع شمل الأسرة، ويشتعل فتيل الكلام، وتصح النفوس، وتتعانق القلوب.. واليوم كبرت المنازل، واتسعت الفجوات بين سكانها، وغدت الغرف في البيت الواحد ممالك مستقلة متباعدة ذات أبواب مغلقة، وعوالم خاصة، لا يشارك ساكنها أحد، وصارت الوحدة، والعزلة، والانكفاء على الذات بوابات مشرعة لمختلف الأمراض النفسية، والتفكك الأسري، والصمت المنزلي..

أكتب هذه السطور التي نبتت على أناملي، وصوت أم كلثوم ينطلق من المذياع مرددا:

«عايزنا نرجع زي زمان

قل للزمان ارجع يا زمان».

لم أكن أرغب هنا أن أقول للزمن: «ارجع يا زمان»، ولكن فقط وددت أن أرجوه بأن لا يسمح لرياحه بأن تقتلع وفاء الأسرة من وجداننا، ولا دفق المحبة من قلوبنا، ولا الإحساس بالمسؤولية المشتركة من نفوسنا لكي لا نعيش غرباء داخل البيت الواحد..

سألت مهندسا معماريا:

ـ كيف يمكن أن نبني بيوتا جدرانها حب، وسقوفها أمان، وأبوابها تلاق، ونوافذها فرح؟

فرمقني من خلف زجاج نظارته «كعب الفنجان» وقال:

ـ قل للزمان ارجع يا زمان.

[email protected]