وزعموا: أن السعودية.. بلد (انغلاق).. (ونفي للآخر)!!

TT

ما أظلم الناس، وما أشدهم قسوة: بعضهم على بعض؟!.. ومن صور هذا الظلم والقسوة: ان بلادنا هذه تعرضت ـ كما لم يتعرض بلد آخر ـ لحملات تشويه وتشنيع وقدح وذم: فكري وسياسي وإعلامي.. ولقد اعتمدت هذه الحملات الظلوم على (مقولات) ظلوم جهول: مقولات: ان السعودية بلد (انغلاق وانعزال).. وبلد (نفي الآخر) والتجهم له.. وبلد (أبكم) لا يفتح فمه بالحوار مع الآخر.. و.. وإلى آخر هذه النعوت التقبيحية.

وهذا ظلم (معرفي وواقعي) ـ إن صح التعبير ـ:

هو ظلم ـ بالمقياس المعرفي ـ لأن حكاية الانغلاق السعودي هذه، ونفي الآخر، لا وجود لها في الوثائق الدستورية السعودية، ولا وجود لها في (المنهج المرجعي) للسعوديين: مجتمعا ودولة.

1 ـ بالنسبة للوثائق الدستورية، نقرأ في المادة (25) من دستور السعودية: «تحرص الدولة على تقوية علاقاتها بالدول الصديقة».. وتعبير الدول الصديقة ينتظم دول العالم كافة غير المسلمة، فهو ينتظم الدول المسيحية والبوذية والهندوسية والعلمانية.. وينتظم أحمرها واصفرها وأسودها وأبيضها.. فأين الانعزال ونفي الآخر ها هنا؟. ولئن انتظم هذا التعبير أمم الأرض كلها، فإن تعبير (الدول الشقيقة) خاص بالدول المسلمة.

2 ـ بالنسبة للمرجعية المنهجية، ينص الدستور نفسه في المواد (6 ـ 7 ـ 8) على أن مرجعية الدولة والمجتمع هي (الكتاب والسنة)، فهل في هذه المرجعية العليا النهائية ذرة واحدة من رائحة الانغلاق ونفي الآخر؟.. لا والذي أنزل القرآن على خاتم النبيين والمرسلين صلى الله عليه وآله وسلم.

فنقرأ في هذا القرآن المجيد ـ الذي تنزل على أرض المملكة العربية السعودية في مكة والمدينة ـ آيات بينات تدعو الى الانفتاح الكبير وإلى التواصل المستمر بين البشر أجمعين.. ومن هذه الآيات:

أ ـ «ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم».. فاختلاف الألسنة والألوان آية من آيات الله في الاجتماع البشري، وليس ذريعة إلى العنصرية والانغلاق ونفي الآخر.

ب ـ «هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها»، ومما لا ريب فيه: ان النص يشمل الناس جميعا، إذ النشأة الأولى (واحدة).. ثم ان الانتداب الإلهي للبشر لكي يعمروا كوكبنا هذا هو انتداب ينتظم النوع الإنساني كله، مؤمنه وكافره، مستقيمه وعاصيه، نساءه ورجاله، ساميّه وحاميّه ويافثه.

جـ ـ «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا».. ومن مفاهيم هذه الآية الأصل: أن الناس المختلفي الألسنة والألوان والشعوب والقوميات المنتدبين لإعمار الأرض هؤلاء جميعا مدعوون ـ باسم الله وبموجب ندائه القدسي هذا ـ إلى (التعارف)، وهي كلمة مفعمة ريّانة بمعاني: الاتصال والتفاهم والوداد وتنحية الأسلاك الشائكة والجسور الفاصلة بين البشر.

بمقتضى هذه الدستورية والمرجعية السعودية نسأل: أليس من الظلم البواح، والجهل الصراح: اتهام بلد: هذا دستوره، وهذه مرجعيته المنيرة الحافزة ـ أبدا ـ على الانفتاح والاتصال والتعارف والتفاهم والتعايش: اتهامه بالانغلاق والانعزال ونفي الآخر؟.. بلى، انه ظلم بواح، وجهل صراح.

يُضم الى ذلك انه ظلم (واقعي) أيضا.. كيف؟.. إن السعودية بلد مفتوح ـ إلى الآخر ـ على العالم كله: مفتوح اقتصاديا وتجاريا ودبلوماسيا وسياسيا وإعلاميا وسياحيا.. وهذه ظاهرة حضارية منذ حقبة التأسيس على يد الملك عبد العزيز وحتى اليوم.. نعم. كانت هناك قوى معينة معروفة حاولت الانكفاء والانعزال، بيد أن المؤسس المفتوح البصيرة، الحازم القرار دحرها واستأنف مسيرة الانفتاح على العالم بثقة وعنفوان وأصالة.. وها هي السعودية اليوم حاضرة في عالمها وعصرها: بلا وسوسة، ولا تردد، ولا حواجز.. أوليس من الظلم البواح، والجهل الصراح: أن يتهم بلد هذا سلوكه بالانغلاق ونفي الآخر؟.. بلى، انه لظلم وجهل.

وها هي دعوة الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى الحوار العالمي تنطلق من ذات البلاد للتوكيد على نهضة الانفتاح العالمية التي قادها الملك عبد العزيز من قبل.. نعم. فحراك الملك عبد الله بن عبد العزيز موصول ومرفود برصيد المملكة في هذا المجال: رصيدها الدستوري.. ورصيدها المنهجي المرجعي المعرفي الحافز على التعارف الإنساني العام، أي من حيث هو إنساني، بغض النظر عن عقائد الناس ومذاهبهم وايدلوجياتهم، وانه لمن حسن حظ القائد أن يجد رصيدا هائلا ضخما مشرقا من هذا النوع يستثمره في توثيق العرى بين الأمم، وفي تصحيح الصورة المغلوطة عن دينه وبلاده.. يقول الملك عبد الله بن عبد العزيز ـ في افتتاح مؤتمر مكة للحوار العالمي ـ: «ولهذا جاءت دعوة أخيكم لمواجهة تحديات الانغلاق والجهل وضيق الأفق ليستوعب العالم مفاهيم وآفاق رسالة الإسلام الخيرة دون عداوة واستعداء».

ولما كانت السعودية مستهدفة ـ بوجه خاص ـ بتلك الحملات الظلوم الجهول، فإن انطلاق الدعوة إلى حوار عالمي منها له دلالة خاصة بحسبانها (رمزا) أصيلاً حيَّاً للعالم الإسلامي، هي رمز لأنها منازل الإسلام الأولى، وموئل مقدساته العظمى، وهي نهضة عصرية على أساس شريعته وعقيدته.

لهذا كله ينبغي التعامل مع هذه القضية بكامل الإخلاص والجد، إذ هي أكبر وأجل من أن تكون مجرد دعاية، أو مسارعة في رغبات أقوام يضيقون بحقائق الإسلام ويريدون محاصرته من خلال تهم عديدة منها: تهمة انه دين يضيق بالآخر وينفيه.. ومن عزائم الجد والإخلاص والمسؤولية في التعامل مع هذه القضية:

1 ـ الادراك السديد لأهمية: ان المخاطب بالحوار ينبغي أن يكون هم الأمم والشعوب في المقام الأول لئلا يكون الحوار ترفا فكريا في صالون نخبوي مترف.. والسبب الثاني هو أن العداوات أنزلت ـ بقصد مستهتر ـ إلى ساحات الشعوب والأمم. فالعلاج ـ من ثم ـ يتعين أن يتصل بالساحات ذاتها.

2 ـ أن يلامس الحوار القضايا التي يشعر العالم الإسلامي بأنه الطرف المظلوم فيها، ذلك أن (فرار) الحوار من هذه القضايا يضطر المسلمين إلى فهم أنه فرصة لاحتواء غضب المسلمين وتنفيسه.. ولا زيادة!!

3 ـ تكييف الموقف بعدالة ووضوح.. حين نقول: إننا لسنا نحن الذين يرفضون الحوار فقد يظن ظان ان المسلمين جميعا (متفقون) ـ باطلاق ـ على الحوار بين الأمم.. هذا ظن غير صحيح من الناحية الواقعية. فمن المسلمين (ومن للتبعيض) من لا يؤمن بالحوار، بل يتصور العلاقة مع الآخرين هي علاقة بغضاء وعداوة باطلاق، وعلاقة ملاكمة ونطاح دائم باطلاق.. وبطبيعة الحال، فإن (بعض المسلمين) لا يملك تفويضا من أي نوع للتحدث باسم المسلمين كافة، على أنه من التوازن والإنصاف: الجهر الحق بأن الدعوات إلى (صراع الحضارات) لم تصدر عن مسلمين.

4 ـ صيانة مصطلح (الحوار) من الابتذال المهين.. ما هو أسوأ ما رزئت به البشرية في الحقب الأخيرة؟.. الارزاء كثيرة جدا. ومن بينها ـ بلا ريب ـ رزء (ابتذال) الكلمات والمصطلحات ابتذالا سفيها فرغها من مضامينها الجيدة، وحمل قطاعات واسعة من البشر على الكفران بها.. مصطلحات مثل: الاشتراكية، والديمقراطية، والحرية، وحقوق الإنسان، وسيادة القانون، والشرعية الدولية، والعولمة الخ، من هنا يتوجب صيانة مصطلح (الحوار) لئلا يكون مصيره بائسا كمصائر المصطلحات الأخرى التي غشيها البؤس من كل جانب، وتراجع وزنها وقيمتها في ضمائر الناس واهتماماتهم.

5 ـ ألا يبدو الأمر وكأن المسلمين (يتسولون) الحوار. فهذا شعور يذل الذات، ويغري الآخر بمزيد من الاستعلاء. وهذا ليس في مصلحة الحوار قط. ولذا يلزم وجود فهم مشترك قوامه أن الحوار (مصلحة مشتركة) للأطراف جميعا: تتحقق بالندية والاحترام واقتسام المنافع.

6 ـ هل الأسبقية لتمهيدات لا بد منها ـ كشرط للحوار ـ مثل: الكف عن تشويه الإسلام، وعن ظلم المسلمين؟.. أو أن ذلك كله يأتي ثمرة للحوار، على افتراض أن الحوار يمكن أن يثمر في ظل التشويهات والمظالم؟.