مطلوب إنقاذ التوصيف المهني للصحفي من وهم تضخيم الذات

TT

في استطلاع للرأي بين مئات الصحفيين العرب، جاءت النتائج مثيرة للاهتمام لتضع علامات استفهام حول ـ واستعين بما يجوز للشاعرpoetic licence ـ ما بدا من شيزوفرينيا التناقض بين ارتفاع مستوى البعض ثقافيا وانتمائهم الحرفي للمهنة.

ست باقات من الاسئلة، ما يهمني منها، كاحد شيوخ قبيلة الصحافة المسنين، اثنتين: اولها يستكشف رؤية الصحفيين للتوصيف المهنيJob description في ممارسة الحرفة؛ والاخرى اختبرت عمق الصحفيين الثقافي/ الذهني للسياسة والمؤسسات الاجتماعية. عكست اجاباتهم على الاخيرة نضج تفهم معظمهم لضرورة فصل الدين عن السياسة والايمان الروحي عن العمل الدنيوي.

النضج الثقافي ناقض ضحالة اجابات الاغلبية على مجموعة 20 سؤالا عن التوصيف المهني؛ بداية بالسؤال البديهي: هل دور الصحفي، ببساطة، نقل الحقائق للقارئ؟ ونهاية بتوصيف مهني يقارب عمل بائعة الهوى: «التعبير عن مصالح صاحب الصحيفة» و«مصالح الحكومة».

عكست اجابات البعض المبالغة والاستعلاء وتضخيم ذاتهم في رؤية عمل الصحفي «تثقيف وتعليم الجمهور»، او «توظيف الأخبار من اجل خلق مجتمع طيب».

تناولت بعض الاسئلة مهام صحفية تفرعت من العمل الاساسي ـ مجرد نقل الحقائق للقارئ ـ لمهنتنا التي تقصر العمر وتفقدنا من الاصدقاء عددا لا يفوقه الا ما تكسبه لنا من اعداء. مهام تفرعت من شجرة الديموقراطية بعلاقاتها المعقدة، لتصبح الصحافة سلطة رابعة «كمتابعة أداء الحكومة» و«تحليل قضايا الساعة»؛ والمعتاد متابعتها كمجرد اخبار. لكن اجابات الاغلبية على اسئلة صممت لقياس مدى تصور الصحفيين لاهمية دورهم، عكست تضخيمهم للذات واستعلائهم على جمهورهم. رأى البعض مهمتهم «تشجيع الاصلاح السياسي» و«الترويج للمشاركة المدنية» و«تطوير المجتمع». ورأوا انفسهم «كصوت للفقراء»، يلعبون دور «الخصم السياسي».

كما وقع نصف المشاركين في فخ اسئلة وصفت مهام لا علاقة لها بدور الصحفي مهنيا مثل: «مهمة الصحفي هي دعم القضية الفلسطينية» او

«الدفاع عن المصالح العربية» او«الترويج للثقافة العربية» او«دعم الوحدة العربية» او«تشجيع القيم الروحية».

ظهر نضج ثقافة الصحفيين العرب في رفض 78% منهم فكرة السماح للقادة الدينيين بالتأثير على الانتخابات، وتقديم 60% منهم أحكام القانون القضائي على احكام الشريعة، في حالة تناقض الاثنين؛ ورفض الربط بين تدين الفرد او إيمانه كضروره لسمو اخلاقه وتمسكه بالمبادئ؛ ورأي ربعهم فقط في تدين المرشح شرطا لتوليه منصبا رئاسيا؛ لكن تناقض هذا النضج مع وعيهم بالتوصيف المهني.

فدور «نقل الحقائق» (وهو العمود الفقري للصحافة) لم يره ضروريا سوى 24% فقط من المشاركين، فتراجعت اهميته للمركز الـ16، بينما احتلت مهام تضخيم الصحفي لدوره، المراكز السبعة الاولى. رأى ثلاثة ارباع الصحفيين دورهم «كعامل للاصلاح السياسي»؛ واعتبر الثلثان انفسهم «معلمين ومثقفين للشعب»، بينما دعا 60% لتوظيف الاخبار لصالح المجتمع؛ وقال 58% انهم صوت للفقراء، ودعا 56% للترويج للمشاركة المدنية؛ و53% لدعم التنمية، واعتبر 44% انفسهم مطورين للمجتمع و43% اداة للتغيير.

المهام السبعة التي اعتبرها الاغلبية توصيفا مهنيا لحرفتهم لاعلاقة لها عمليا على ارض الواقع بالصحافة؛ فكلها نصيب مؤسسات ثابتة كالمدرسة والدين؛ واخرى ديناميكية كالاحزاب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني، بينما مهمة الصحفي عمليا نقل اخبار هذه المؤسسات اذا كانت تهم القارئ.

ولمن سيتهمني بمحاولة سحب تجربة صحافة الغرب الحرة على صحافة اللغة العربية «في مجتمعات لها خصوصياتها الثقافية»، اذكرهم بأن دور الصحفي كناقل للحقائق وباحث عن الخبر لا مصلحا اجتماعيا او زعيما سياسيا، كان حدده، ومارسه بنجاح، عمالقة صحافة الحقبة الدستورية البرلمانية الليبرالية التعددية الديموقراطية في مصر (1922- 1954)، كمدرسة صحف مؤسسة اخبار اليوم، يوم وصل توزيع صحيفة «اخبار اليوم» وحدها، تحت رئاسة تحرير مصطفى بك امين، ما يفوق توزيع الصحف العربية مجتمعة من جبال اطلس الى مضيق هرمز.

الملاحظ ايضا وقوع نصف المشاركين في مأزق أيديولوجي بتفضيلهم ست مهام لا علاقة مباشرة لها بمهنة الصحفي على الدور الاصلي، وهو «نقل الحقائق». صنف 48% منهم دعم القضية الفلسطينية كمهمة اولى واختار ثلثهم الدفاع عن العروبة، والثقافة العربية (37%) والمصالح العربية (32%) والوحدة العربية (29%). نتائج الاستطلاع تعكس أزمة عميقة في الصحافة العربية تجعلها معرقلا لتوصل القارئ والمستمع والمتفرج لمعرفة الحقائق والوقائع، حيث يقع في هوة شيزوفرينيا اغلبية الصحفيين بين انتمائهم «الواقعي» للمهنة، والانتماء «الوهمي»، اي ايديولوجيا.

مجموعة اسئلة تضمنت وجهات نظر الصحفيين تجاه سياسة الولايات المتحدة، وعلاقتها بالشرق الاوسط، خرجت بنتائج تحبس اغلبية الصحفيين في قفص رأي عام، هم المسؤول الاول عن خلقه.

رأى اغلبية المشاركين ان السياسة الامريكية هي اكبر خطر يهدد العالم العربي اليوم، بينما رأى 14% فقط الارهاب كتهديد، بينما اختار 18% عدم الاستقرار السياسي كاكبر خطر.

لم ير 62% من الصحفيين في المساعدات الامريكية لضحايا التسونامي دافعا انسانيا، وانما «محاولة لموازنة شعور العداء لامريكا»، و65% منهم شخصوا المعونة للفلسطينيين ودعم حل الدولتين ونشر الديموقراطية، بخطة مماثلة لاغراض معونة ضحايا التسونامي.

التناقض ان غالبية الصحفيين 61% يرون امريكا ديموقراطية حقيقية يتمنون لبلادهم ان تصبح مثلها، بينما عبر ثلاثة ارباعهم عن رغبتهم في الانتقال لامريكا او العمل في مؤسسات امريكية.

واذا كانت الارقام تشير الى ان ثلاثة ارباع الصحفيين لا ينقل الحقيقة للناس حسب رؤيته لدوره المهني، وأكثر من ثلثيهم يقرون بأنهم «معلمون للشعب» ومهمتهم «تثقيف الجماهير»، فهم اذن المسؤول الاول عن «تثقيف المجتمع» باتجاه خلق رأي عام معاد لامريكا واقناع الناس برؤية سياسة امريكا كخطر يفوق خطر الارهاب. كما ان الارقام تعكس تصديقهم للصورة التي رسموها في اذهان الناس وترديدهم لها مقتنعين بنبوءتهم self fulfilling prophecy اي بتوجيههم الصحافة لاثبات ما يتنبأون به في دائرة مغلقة على الذات.

والامر يعود للصحفيين العرب لاستعادة اصول المهنة، كحرفة اولويتها نقل الحقائق للناس، قبل ان تغرق للأبد في وهم رمال الايديولوجية المتحركة.