حان وقت البراغماتية المتشددة

TT

عندما كنت أعمل مراسلا في إسرائيل أواسط الثمانينات، كان الجدل الكبير هنا في رام الله يدور حول ما إذا كان بناء المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية قد وصل إلى نقطة اللاعودة، وهي النقطة التي سوف يكون معها أي انسحاب جدي من جانب إسرائيل من المستحيل تخيله. وكان السؤال دائما ما يأخذ هذه الصيغة: «هل الساعة تشير إلى خمس دقائق قبل منتصف الليل أم خمس دقائق بعد منتصف الليل؟» حسنا، فعندما أقود سيارتي عبر مناطق في الضفة الغربية، كما أفعل دائما عندما أزورها، يذهلني أن الساعة لا تشير فقط إلى خمس دقائق بعد منتصف الليل، بل إنها تشير إلى ما بعد ذلك بسنين وسنين.

والضفة الغربية اليوم أشبه بسجن كئيب تحيط به الجدران من كل جانب، وتحيط به ـ كذلك من كل جانب ـ نقاط التفتيش الإسرائيلية والمستوطنات «القانونية» و«غير القانونية»، والقرى العربية والطرق اليهودية التي لا يستخدمها إلا المستوطنون الإسرائيليون، كما أن هناك الطرق الخاصة بالعرب وهناك حواجز الطرق بالطبع. وهذه الحقيقة الصعبة والمؤلمة على أرض الواقع في الضفة الغربية لن تتغير بأي اتفاقية سلام عادية. يقول منصور تحبوب، وهو محرر أول في صحيفة «الأيام» وهي صحيفة تصدر في الضفة الغربية: «إن حل الدولتين يختفي».

وفي واقع الأمر، وصلنا إلى نقطة لا يمكن أن ينجح معها إلا ما أسميه «البراغماتية المتشددة»، وهي البراغماتية التي تتسم بالتشدد والقوة مثل الأهداف المتشددة التي ترغب في إبطال تحقيقها. ومن دون ذلك، فإنني أخشى أن تظل إسرائيل إلى الأبد حبلى بالدولة الفلسطينية التي لا تولد أبدا.

والسبب في حاجتنا إلى نقلة نوعية واضح جدا: وهو أن موقف كل من الإسرائيليين والفلسطينيين الآن لا يوحي بأن لديهم الحماس أو السلطة للوصول إلى حل. وبتشجيع من إدارة بوش، فإن إسرائيل والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية يناقشان الآن مسودة اتفاق سلام يمكن أن توضع على الرف، حتى يكون الفلسطينيون قادرين على تنفيذها.

إن نقص الحماس الإسرائيلي الفلسطيني اليوم على مستويات ثلاثة: الأول هو مستوى الأمل والثقة. فمنذ خرق اتفاقية أوسلو، تبخرت الرومانسية من عملية السلام. وقد فاقم من أزمة الثقة، حقيقة أنه بعد انسحاب إسرائيل من قطاع غزة عام 2005، قام الفلسطينيون ـ بدلا من بناء سنغافورة ـ ببناء الصومال.

والمستوى الثاني من نقص الحماس لدى الطرفين، يظهر جليا في حقيقة أن إسرائيل ببنائها الجدار العازل حول الضفة الغربية، أحكمت الحصار على الانتحاريين الفلسطينيين لدرجة أن الرأي العام في إسرائيل الآن لم يعد يشعر بأي خطر، لاسيما مع تنامي الاقتصاد الإسرائيلي. وربما تصبح الضفة الغربية ـ خلف الأسوار ـ أفغانستان أخرى.

أما المستوى الثالث، فإنه يبدو في حقيقة أن النظام السياسي في كل من إسرائيل وبين الفلسطينيين منقسم على نفسه، لدرجة أنه ليس بمقدور أي منهما أن يتخذ مثل هذا القرار الكبير؛ قرار السلام.

الولايات المتحدة وحدها هي التي تستطيع التغلب على هذا التعتيم السياسي من خلال تقديم بعض البراغماتية المتشددة، وسوف يكون المنطق هكذا: إذا لم يستطع الرئيس الفلسطيني محمود عباس السيطرة على الضفة الغربية على الأقل في وقت قريب، فلن تكون لديه سلطة توقيع أي مسودة اتفاق سلام مع إسرائيل. وسوف تضعف الثقة به تماما. لكن إسرائيل لا يمكنها التخلي عن أي جزء من الضفة الغربية من دون طمأنتها بأن هناك شخصا مسؤولا ذا مصداقية. فالصواريخ تنطلق من الضفة الغربية ويمكن أن تصيب مطار إسرائيل الدولي. وهذه مخاطرة لا يمكن التسامح معها.

إن البراغماتية المتشددة تعني أن الوسيلة الوحيدة لموازنة حاجة الفلسطينيين إلى السيادة في الوقت الحالي مع حاجة إسرائيل إلى الانسحاب الآن، ولكن من دون إيجاد فراغ أمني، تكون من خلال اللجوء إلى طرف ثالث يكون محل ثقة الأردن لمساعدة الفلسطينيين على السيطرة على أراضي الضفة الغربية التي يتم تسليمها إليهم. والأردن لا يرغب في حكم الفلسطينيين، ولكن له مصلحة كبيرة أيضا في عدم رؤية الضفة الغربية تنهار تقع تحت حكم حماس.

فدون هذا التوجه البراغماتي المتشدد ـ الذي يرغم إسرائيل على الانسحاب من الضفة الغربية ويرغم السلطة الفلسطينية على السيطرة والسيادة الحقيقية، والذي يعالج مشكلة انعدام الثقة بين الطرفين بإشراك الأردن مع الفلسطينيين ـ فإن أي مسودة اتفاق سلام سوف تموت حال توقيعها.

* خدمة «نيويورك تايمز»