تزايد الإعجاب بأميركا وسط الإيرانيين

TT

منذ أيام قليلة وأثناء وجودي بإحدى الحافلات المارة بشارع «فالي أسر» في طهران، نمى إلى مسامعي حوار دار بين سيدتين حول الأوضاع السياسية الإيرانية المظلمة. وخلصت إحداهما إلى نتيجة يائسة عبرت عنها بقولها بصوت عال: «دعوا أمريكا تأتي. دعوا الأميركيين يرتبون أوضاعنا بصورة نهائية». وهزت صديقتها رأسها بالموافقة، بينما لم يبد أحد من الركاب في القسم المخصص للنساء اعتراضاً.

وفي الوقت الذي ما زال فيه قادتهم ينعتون الولايات المتحدة بـ«الشيطان الأكبر»، يبدو أن مشاعر الانجذاب تجاهها بين صفوف الإيرانيين العاديين في ازدهار هذه الأيام، على الأقل داخل العاصمة. ويتجلى هذا الإعجاب تجاه واشنطن في المحادثات بين الإيرانيين وإقبالهم النهم على المنتجات والثقافة الأميركية وانبهارهم بسير الحملة الانتخابية الرئاسية الأميركية. وبطبيعة الحال من المتعذر إجراء استطلاع للرأي موثوق به حول وجهة نظر الإيرانيين تجاه واشنطن في ظل النظام الديني الحاكم حالياً، بيد أن هذه التحولات لفتت انتباهي كزائرة للبلاد بصورة متكررة ـ خاصة أن التعبير عن الإعجاب بواشنطن يعد إحدى السبل التي يبدي من خلالها الإيرانيون خيبة أملهم تجاه رئيسهم محمود أحمدي نجاد، الذي يعمد إلى تهييج المشاعر بخطبه الحماسية.

وقد يشعر الكثير من الأميركيين بالصدمة حال علمهم أن إيران تتميز بأحد أكثر الشعوب موالاة لواشنطن على مستوى الشرق الأوسط، فعلى مدار قرابة ثلاثة عقود، عشق الإيرانيون الولايات المتحدة، وهي مشاعر تضرب بجذورها في شعور بالحنين إلى عصر إيران الذهبي، قبل وقوع أسوأ موجات القمع التي نفذها الشاه واندلاع الثورة الإسلامية عام 1979. ومع ذلك، فإن مشاعر الإعجاب الحالية تحمل طابعاً مختلفاً.

بداية من عام 2005 تقريباً، تراجعت مشاعر التقدير التاريخية للولايات المتحدة من جانب الإيرانيين لتحل محلها مشاعر عميقة بالتضارب والتناقض بدأت الآن فقط في الاختفاء، حيث أصابت حربا التحرير اللتان شنهما الرئيس «بوش» فيما بعد هجمات 11 سبتمبر (أيلول) على جانبي الحدود الإيرانية ـ في العراق غرباً وأفغانستان شرقاً ـ الإيرانيين العاديين بقلق عارم. وتفاقمت مشاعر السخط إزاء واشنطن جراء معارضتها للبرنامج النووي الإيراني، الذي يمثل أحد المصادر الكبرى للشعور بالفخر والعز الوطنية. في مطلع 2006، لم يكن الأمر يتطلب مني لسماع الشكاوى تجاه السياسات الأميركية، سوى الخروج من باب منزلي. وأذكر أنه أثناء وقوفي في إحدى المرات في طابور لشراء مخبوزات، سمعت سيدات غاضبات ينادين بمقاطعة المنتجات الأميركية. كما استمعت إلى آراء شباب في الجامعات يعبرون عن إعجابهم البالغ بـ«أحمدي نجاد» لـ«وقوفه في وجه الولايات المتحدة كما يليق بالرجال».

في تلك الفترة، توحدت صفوف جميع الإيرانيين من مختلف الفئات العمرية والخلفيات الاجتماعية ضد واشنطن، وأداروا ظهرهم لتقاليدها وثقافتها. وظهرت حركة تدعو لاستبدال الاحتفال بعيد «القديس فالانتاين» (الذي جرى الاحتفال به هنا على امتداد فترة طويلة على النسق الأميركي) بـ«يوم أرمايتي»، وهو مهرجان للحب يمثل تكريماً لإلهة فارسية قديمة. وبدأت فرق الـ«دي جيه» في تشغيل أغاني إيرانية بموسيقى الراب في الحفلات، بدلاً من الأخرى الغربية. وللمرة الأولى منذ سنوات، جلس الملايين في منازلهم يشاهدون فيلماً كوميدياً إيرانياً، «ليالي باريره»، بدلاً من مشاهدة الأفلام الأميركية على اسطوانات «دي في دي».

إلا أنه خلال زيارة قمت بها مؤخراً لإيران على امتداد أسبوعين، لاحظت تغييرات ملموسة.

فعلى سبيل المثال، تم حجز الكثير من المطاعم من أجل الاحتفال بعيد «القديس فالانتاين» قبل قدومه بشهور. ونشطت مبيعات قطع الشوكولاتة المصممة على شكل قلوب والورود بصورة ملحوظة أثارت ضيق السلطات، التي شرعت في مصادرتها من الشوارع. وبدأت مطاعم الوجبات السريعة المصممة على غرار المحال الأميركية الشهيرة في اجتذاب الكثير من الرواد مجدداً.

يذكر أنه خلال زياراتي لإيران عام 2001، لاحظت أيضاً وجود مشاعر إيرانية مشابهة تجاه واشنطن، عندما كان الإعجاب الإيراني بالولايات المتحدة في أعلى مستوياته. وكشف استطلاع للرأي أُجري خلال ذلك العام عن أن 74% من الإيرانيين يؤيدون استعادة العلاقات مع واشنطن. (وعليه، صدر حكم ضد القائم على الاستطلاع بالسجن). ولم يكد يمر حفل عشاء من دون أن أسمع شخصا ما يبدي غيرته إزاء نيل الأفغان حريتهم مؤخراً ويتساءل: «متى سيأتي الأميركيون لإنقاذنا؟».

ويمكن القول إن أكثر الجوانب المثيرة للاهتمام فيما يخص تجدد مشاعر الإعجاب الإيراني في الوقت الحاضر تجاه الولايات المتحدة أن الأخيرة لم تبذل الكثير من الجهود لتحقيق ذلك. وإنما يعكس تجدد مشاعر تقدير المواطن الإيراني العادي لواشنطن سخطه العميق حيال حكامه. وشرح لي أحد الأصدقاء الأمر بقوله: «إنها مسألة انجذاب لنقيض ما لا تطيقه».

لقد عشت في إيران حتى الصيف الماضي وعاينت كل الأسباب التي أدت إلى تحول الغضب الإيراني الأكبر إلى «أحمدي نجاد»، بدلاً من واشنطن، ذلك أنه في ظل رئاسته، اشتعلت معدلات التضخم لتصل إلى 20% على أقل تقدير، حسبما أشار المحللون غير الحكوميون. ويرجع هذا التفاقم في معدلات التضخم إلى السياسات المالية التوسعية التي انتهجها «نجاد» التي أدت إلى ضخ كميات هائلة من النقد إلى داخل الاقتصاد. على سبيل المثال، أخبرتني جليسة الأطفال التي تعمل لدي، أنه لم يعد بمقدورها إطعام أسرتها اللحم مرة كل أسبوع.

من بين أكثر القطاعات تضرراً من التضخم سوق العقارات، حيث ارتفعت أسعار المساكن بنسبة 150% تقريباً على الأقل، طبقاً لتقديرات الوكلاء العقاريين. وبالنسبة لغالبية الإيرانيين، تحولت الإيجارات التي كان بمقدورهم توفيرها فيما مضى، إلى عبء هائل على عاتقهم. وخلال إحدى أمسياتي في إيران، تابعت خطاباً تلفزيونياً وجهه «نجاد» إلى الشعب الإيراني من داخل مدينة «قم» المقدسة، ألقى خلاله باللوم على الجميع، بدءًا من الغرب ووصولاً إلى «مافيا السجائر» المحلية، فيما يتعلق بتردي الأوضاع الاقتصادية. كما سبق وأن ادعى الرئيس الإيراني أن «مافيا الإسكان» هي التي تدفع أسعار المساكن نحو الارتفاع. والآن، يعترف الكثير من الإيرانيين الذين صدقوا هذا النمط من التبريرات القائمة على نظرية المؤامرة في البداية، أن الخطأ يكمن في السياسات التي يتبعها الرئيس وعناده. وفي إشارة إلى أنه حتى النظام الحاكم بدأ يفقد صبره إزاء «نجاد»، تم انتخاب «علي لاريجاني»، أحد المنافسين الرئيسيين لـ«نجاد» وكبير فريق التفاوض بشأن الملف النووي الإيراني رئيساً للبرلمان الأسبوع السابق بأغلبية كاسحة.

ومن بين الأسباب الأخرى وراء تحول الإيرانيين العاديين ضد «نجاد» تنامي استعراض مظاهر الثراء من جانب الإيرانيين الأغنياء. وبدلاً من إشراك المواطنين العاديين في التمتع بعوائد الثروة النفطية مثلما وعد، شهدت فترة رئاسة «نجاد» تصاعد غير مسبوق في مظاهر استعراض الثروة، حيث تشهد الشوارع الإيرانية سيارات «مرسيدس بنز» و«بي إم دبليو» جنباً إلى جنب مع السيارات محلية الصنع، مثل «بيكان»، وذلك بفضل تخفيف القيود على استيراد السيارات.

وكان من شأن هذا التباين الطبقي الصارخ الجديد، علاوة على تردي الأوضاع الاقتصادية على امتداد الأعوام الثلاثة الماضية، إحياء نظرة الشباب الإيراني تجاه الولايات المتحدة، باعتبارها أرض الفرص. ويرى علي غاسمي، 34 عاماً، وهو يعمل مصمم جرافيك، أنه: «يمكنك المنافسة داخل الولايات المتحدة، لأن بها نظاما قانونيا أكثر عدالة بكثير. وتحدث «غاسمي» بفخر عن النجاح المالي الذي حققه ابن عمه الذي هاجر إلى الولايات المتحدة، بينما اشتكى من أن إيران قصرت الثروة على ورثة آيات الله.

ما زاد من سخط الإيرانيين، الصفوف التي تبدو بلا نهاية التي صاحبت تنفيذ الخطة الجديدة للحكومة الخاصة بتوزيع حصص محددة من الوقود على المواطنين. ويتطلب الأمر قرابة ساعة حتى يتم الحصول على البنزين اللازم للسيارة. من جانبه، أشار نجاد إلى أن هذه الخطة التي تفتقر إلى الشعبية تشكل إجراءً احترازياً ضد عقوبات غربية محتملة، لكن معظم الأفراد الذين تحدثت إليهم يعتبرون الخطة مؤشر آخر على سوء إدارة نجاد لشؤون البلاد.

إضافة إلى ذلك، شن نجاد حملة انتهاكات جديدة لحقوق الإيرانيين في الخصوصية. خلال اليوم الثاني لزيارتي للبلاد، أعلنت الصحف أن الشرطة ستبدأ في تنفيذ حملات ضد المكاتب والشركات لضمان التزام النساء بالزي الإسلامي الملائم. وفي اليوم الثالث، شنت الشرطة غارة في الشارع الذي أقيم به لمصادرة أطباق التقاط القنوات الفضائية غير المصرح بها.

إلا أنه من بين العوامل الأخرى التي أسهمت في استعادة الإيرانيين لإعجابهم وتقديرهم للولايات المتحدة انحسار أهمية البرنامج النووي الإيراني المشتبه فيه.

يذكر أنه خلال ذروة شعبيته، نجح نجاد في حشد الدعم الشعبي وراء البرنامج النووي، اعتماداً على شعارات مضللة، مثل «الطاقة النووية حق مطلق لنا». بيد أن هذا العناد لم يثمر سوى إضفاء مكانة «دولة منبوذة» على إيران على الصعيد الدولي، الأمر الذي دفع الكثير من الإيرانيين لإعادة النظر في التكاليف المترتبة على تخصيب اليورانيوم.

بطبيعة الحال، ما تزال هناك أقلية من الإيرانيين ـ ربما الـ10% تقريباً من المجتمع الذين ينتمون حسب تقديرات علماء الاجتماع إلى التيار المتشدد ـ تمقت «الشيطان الأكبر». بيد أنه بصورة عامة تتسم مشاعر كراهية الولايات المتحدة داخل إيران بكونها أقل حدة عن الغضب العارم الموجود بمناطق أخرى من العالمين العربي والمسلم، ويرجع ذلك إلى أن القضية الفلسطينية تخلف تأثيراً أقل عمقاً هنا، الأمر الذي ييسر أمام الإيرانيين، حتى منتقدي واشنطن، النظر إلى العلاقات الأميركية من منظور براغماتي. من ناحية أخرى، يشعر غالبية الإيرانيين بالحنين إلى حقبة الشاه، نظراً للرخاء والمكانة الدولية الرفيعة التي كانت تتمتع بها طهران آنذاك. على الجانب الآخر، لا تشعر الأجيال التي وُلدت بعد الثورة الإسلامية، بأن هناك مستقبلا أمامهم، بينما يتعاملون مع ذكريات آبائهم الجميلة كما لو أنها تخصهم. ودفع هذا الحنين الإيرانيين، من الشباب وكبار السن على حد سواء، إلى متابعة الانتخابات الأميركية. ويفضل معظمهم السناتور باراك أوباما، لاعتقادهم أنه سيعمل على تحسين العلاقات مع طهران.

في أحد شوارع طهران، وقفت لتناول أطراف الحديث مع أحد الباعة الشباب الذي قال: «قبل الثورة، كانت لنا علاقات مع الولايات المتحدة. هل كان ذلك سيئاً بالنسبة لنا؟ لقد كنا آنذاك على رأس المنطقة والعالم». ويعبر هذا الاعتقاد عن وجهة نظر الكثير من الإيرانيين، لكن الملالي المسيطرين على الحكم ما زالوا عاجزين عن تعلم كيفية التوقف عن كراهية الولايات المتحدة. وحتى يتعلموا ذلك، سيبقى «الشيطان الأكبر» في نظر غالبية الناس هنا كياناً عظيماً.

* صحافية في مجلة «تايم» مختصة بشؤون إيران

خدمة «واشنطن بوست» ـ (خاص بـ«الشرق الأوسط»)