مفارقات إيران المحيِّرة

TT

رغم سيل الحبر الجارف في مقاربة الشأن الإيراني من أبعاده المتعددة والمختلفة، فإن الموضوعية تقتضي الاعتراف بأن المسألة الإيرانية تشكل بالنسبة إلينا نحن العرب إشكالية معقدة ومحيرة وملفا غامضا تتعثر فيه عملية الفهم مراتٍ ومراتٍ.

فهي من جهة، دولة طموحة تسعى إلى لعب دور إقليمي وتحمل أهدافا توسعية بالمعنى الجغراسياسي لا يختلف فيه اثنان، بالإضافة إلى طموحها النووي الذي يعكس تصورها للدولة الإقليمية وللقوة. من جهة أخرى، فإن الحيرة تفعل فعلها بسبب تصريحات أحمدي نجاد المتكررة والحال أن إيران هي أكثر مَنْ يدرك خطورة تلك التصريحات وتبعاتها. أي أن هناك مفارقة غريبة وغير منطقية بين طموحات إيران وبين خطابها السياسي المعلن. وهذه التصريحات التي تستهدف إسرائيلَ والولايات المتحدة وتغلب عليها النبرة التحقيرية والتقزيمية وكأن إيران تريد أن تُذكر دولا بعينها بأن موقفها من إسرائيل على حاله رغم العداء المتبادل، لم تؤثر على سياساتها.

وعندما نمعن التفكير في تصريحات أحمدي نجاد التي تتكرر منذ انتخابه وإلى اليوم ـ أي قرابة ثلاث سنوات ـ والتي يتوقع فيها زوال إسرائيل من الخريطة وزوال ما يسميه القوة الشيطانية الأمريكية دون أن ننسى وصفه إسرائيل بأوصاف مزرية، عندما نطيل النظر في هذه المقولات المتكررة والمتشابهة، نضع فرضيتين لا ثالث لهما: الأولى أن إيران هي دولة قوية بشكل يفوق تصوراتنا وتقديراتنا، والثانية أنها دولة مغامرة.

ولكن الإشكالية التي تصادفنا في الفرضية الثانية هي أن إيران مستوعبة لنهايات المغامرات في منطقة الشرق الأوسط، وأنها على دراية تامة بثمنها الباهض. وبالتالي، فإن الأقرب إلى المنطق هو اعتقاد إيران بأن التصريحات المشار إليها لن تجلب لها أية مضرة بقدر ما ستؤثر في الحسابات السياسية للأطراف الأخرى.

من جهة أخرى، نعتقد أن طبيعة الفعل السياسي في إيران والذي يخضع إلى مصادر متعددة للقرار والتخطيط السياسيين، تسقط فرضية اعتبار إيران دولة مغامرة على أساس أن من خصائص الأنظمة المغامرة الاحتكام إلى مركزية القرار والسلطة المتجمعة في قبضة يد واحدة. وفي هذا السياق نستطيع أن نفهم ونصغي بتجاوب إلى تلك الأصوات القليلة التي تؤكد أن إيران لن تُهاجم من طرف أمريكا وإسرائيل.

وربما ما يجعلنا ننحاز إلى هذه القراءة تلك الخاصية الجوهرية غير الظاهرة في السياسة الإيرانية والمتمثلة في البعد البراغماتي للفعل السياسي، والذي أظهره تحالفها غير المعلن مع الولايات المتحدة للإطاحة بنظام طالبان وحزب البعث في العراق، أي أن إيران شكلت مرتكزا حقيقيا لقرارات استراتيجية كبرى.

ومن ناحية أخرى، نلحظ أن تصريحات أحمدي نجاد التي كثيرا ما تلتها إدانات دولية لم تُكلف إيران فاتورة باهظة، بل أن بعض المعطيات الاستراتيجية في المنطقة تشير إلى أنها تصيب المرمى السياسي الذي تحدده. من ذلك أنه رغم كونها متورطة في الأزمة اللبنانية، فإن حلفاء إيران خرجوا بلا هزيمة.

لذلك، فإن الحيرة ستظل تلف الملف الإيراني وكل الفرضيات الحالية غير قادرة على تمشيط المفارقات الإيرانية التي نتجاذب فيها بين خطاب سياسي معلن مجنون وحصاد سياسي عاقل جدا.