الوضع الفلسطيني «يتقدم» نحو الحالة الصحيحة

TT

من الضروري أن نتوجه بالتحية والتقدير للرئيس الفلسطيني محمود عباس، على خطابه الذي ألقاه في ذكرى حرب الخامس من حزيران/ يونيو 1967، وخاطب من خلاله الشعب الفلسطيني والأمة العربية والعالم.

نتوجه له بالتحية والتقدير لما ورد في الخطاب من تحديد لمنهج التفاوض الفلسطيني مع إسرائيل، ومن تأكيد على الثوابت الوطنية، التي تستطيع أن تجمع حولها كل القوى الفلسطينية المناضلة.

ونتوجه له بالتحية والتقدير لما ورد في الخطاب من دعوة صادقة للحوار الوطني، الذي ينهي الانقسام القائم بين رام الله وغزة، والذي يوفر أيضا الأرضية اللازمة لإعادة تأكيد بنود المشروع الوطني الفلسطيني، القادرة على توحيد قوى الجميع في وجهة واحدة.

ونتوجه له بالتحية والتقدير لصراحته في خطابه حول مواقف إسرائيل، التي خربت المفاوضات قبل أن تبدأ. وإدانته لكل ما تعمل من أجله في قضايا الحدود والقدس والاستيطان والأمن والحصار والتهدئة.

لقد جاء هذا الحوار متضمنا سلسلة من المواقف، التي تسهل عملية الحوار الفلسطيني وتجعلها قابلة للنجاح منذ لحظاتها الأولى. فقد حدد أولا المطالب الفلسطينية، مطالب الحد الأدنى، وبصورة قادرة على جمع الأطراف حولها. وحدد ثانيا أسباب الرفض للموقف التفاوضي الإسرائيلي، وبما يعبر عن رأي الجمهور والقوى السياسية ضد تلك السياسة. وحدد ثالثا صيغة لحوار الوحدة الوطنية ابتعدت عن استعمال الكلمات الاستفزازية، التي كانت تستعمل في السابق، من نوع كلمة «الانقلاب»، أو من نوع «الذهاب فورا» إلى الانتخابات، والتي كانت توحي بالرغبة في التخلص من الجهات التي سيتم التحاور معها أكثر، مما كانت توحي بالرغبة في الحوار والتفاهم. ومن شأن هذه الأسباب كلها، أن تدفع الأطراف الأخرى، وبخاصة الأطراف الفلسطينية، إلى ضرورة التعامل جديا مع خطاب الرئيس الفلسطيني، ومع دعوته للحوار، بعيدا عن الإحن والحزازات التي سادت طوال العام الماضي.

وهنا يجب أن نلاحظ أن الرئيس عباس لم يكتف بالخطاب، مع أن الخطاب مهم بحد ذاته، بل هو عقد في مقر الرئاسة، اجتماعا برئاسته للحكومة الفلسطينية، وأكد في هذا الاجتماع، وأحيانا بكلمات أشد صراحة من كلمات الخطاب، الأفكار والمواقف نفسها. قال في الاجتماع مثلا حول القدس «إننا لا يمكن أن نتفاوض على القدس والقدس تلتهم يوما بعد يوم». وقال حول الاستيطان «هذا الاستيطان نرفضه رفضا قاطعا، وموضوع الاستيطان تصدر لقاءنا برئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي أكدنا له ولوزيرة خارجيته رفضنا القاطع للإجراءات الاستيطانية». وقال حول الحوار «إننا مع حل وطني من أجل الوحدة الوطنية، وهذا ليس تكتيكا، وإنما نحن مصرون على استعادة وحدة الوطن».

ويجب أن نلاحظ كذلك نقطة ثانية مهمة. ذلك أنه في اليوم الذي ألقى فيه الرئيس خطابه، وفي اليوم الذي اجتمع فيه مع مجلس الوزراء، أوعز

لـ«بعثة المراقبة الدائمة لفلسطين» في الأمم المتحدة، أن تتقدم برسائل متطابقة إلى: الأمين العام للأمم المتحدة، وإلى رئيس مجلس الأمن (وهو لهذا الشهر رئيس الوفد الأميركي)، وإلى رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة. وحددت الرسائل الثلاث موقفا حازما ضد سياسة الاستيطان الإسرائيلي، واستعملت لغة دبلوماسية واضحة، وقالت: إن الاستيطان «تحد صارخ لإرادة المجتمع الدولي وقرارات الشرعية الدولية». وأكدت أن «المستوطنات الإسرائيلية غير القانونية في كل أنحاء الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلة». وقالت «يجب على المجتمع الدولي اتخاذ تدابير عاجلة تهدف إلى حماية القدس الشرقية.. قلب وعاصمة الدولة الفلسطينية في المستقبل».

وهناك ملاحظة ثالثة مهمة، وهي أن خطاب الرئيس جاء في توقيت دقيق، وذلك بعد المواقف الاستفزازية التي عبر عنها باراك اوباما المرشح للرئاسة الأميركية في خطابه أمام مؤسسة «إيباك» الصهيونية. لقد أعلن مواقف شديدة الانحياز للسياسة الإسرائيلية العدوانية، وشديدة العداء للمطالب الفلسطينية، وبخاصة تجاه القدس وتجاه حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، حيث دعا بصدد القدس إلى اعتبارها عاصمة موحدة ويهودية لدولة إسرائيل. ودعا بصدد المقاومة إلى اعتبار هذه المقاومة إرهابا تجب مواجهته. كذلك جاء الخطاب في لحظة اجتماع رئيس الوزراء الإسرائيلي مع الرئيس الأميركي، حيث طلب منه تعزيز السياسة الإسرائيلية من الاستيطان إلى القدس إلى غزة إلى إيران. وقد شكل خطاب الرئيس الفلسطيني ردا على هذه السياسة الأميركية ورفضا لها. وردا أيضا على السلبية التي تعامل بها الرئيس الأميركي مع الرئيس الفلسطيني، حين التقاه آخر مرة. وهو موقف يعلنه الرئيس عباس لأول مرة، وبهذه الطريقة الواضحة.

ولا بد أن نلاحظ هنا، أن هذا الموقف الثلاثي الأبعاد من الرئيس عباس (الخطاب، وأقواله في اللقاء مع مجلس الوزراء، ورسائل الأمم المتحدة)، يأتي في نهاية سياسة تفاوضية راهن عليها الرئيس منذ انتخابه، وبذل من أجلها جهودا تفاوضية فاقت الحد، وصبر على فشلها صبرا طويلا لعلها تتحرك بشكل أو بآخر، وراهن من خلالها على مؤتمر أنابوليس الذي لم يثمر شيئا، كما راهن على الرئيس الأميركي وصدق نواياه إلى أن تنصل الرئيس الأميركي في لقائه الأخير معه من كل وعوده، رافضا دعم المفاوضات، ورافضا الضغط على إسرائيل لوقف الاستيطان، ومتعللا بأنه يتعامل مع «الصورة الكلية» للمفاوضات ولا يتدخل بالتفاصيل. وهنا يبدو أن الرئيس عباس أدرك فشل مراهنته على المفاوضات، وعلى المفاوضات فقط، وقرر إعلان موقف واضح بشأنها، متجها نحو طريق الحوار والوحدة الوطنية الذي يضمن له قوة داخلية يستند إليها في مواجهة الصلف الإسرائيلي. وبهذا المعنى فإن فشل سياسة التفاوض المفتوح، شكل العامل الأساسي في هذا الخطاب النوعي الجديد، الذي يركز على ثوابت الحد الأدنى، ويتوجه نحو الوحدة الوطنية كسلاح ضروري للصمود والمواجهة مع المحتل. وأخيرا لا بد أن نلاحظ، أن القوى الفلسطينية الأساسية: حركة حماس، وحركة الجهاد الإسلامي، والمبادرة الوطنية (د. مصطفى برغوثي)، قد سارعت كلها إلى الترحيب بالخطاب، وإلى الترحيب بالدعوة للحوار الوطني.

وما يحتاجه الوضع الآن، أن تبادر جهة عربية، سواء كانت السعودية، أو مصر، أو سوريا، أو قطر، أو الجامعة العربية، لحوار فلسطيني يجري برعايتها أو برعاية عربية مشتركة، تعود فيه العلاقات الفلسطينية الداخلية إلى إطارها الصحيح، الإطار الذي يتعايش فيه الجميع (بين الفصائل وداخل السلطة) في مواجهة خطر واحد هو الاحتلال. ويتعايش فيه الجميع من دون أي خوف من أن طرفا يعمل لإقصاء الطرف الآخر أو تهميش دوره. وهناك اتفاقات ومبادرات عديدة يمكن أن تسهل هذه المهمة الضرورية والحساسة، يأتي في مقدمتها «اتفاق مكة» مع السعي لتعديله وتطويره وتحسينه على ضوء التجربة المرة التي عشناها. ويأتي في مقدمتها «المبادرة اليمنية» التي تم التوقيع عليها. ويأتي في مقدمتها أيضا قرار القمة العربية في دمشق الذي ركز على دعم المبادرة اليمنية والدفع بها نحو التطبيق.

ولا شك أن خطاب الرئيس الفلسطيني يفتح الطريق نحو هذا كله. ولهذا يجب الإمساك به، وأخذه كما هو، كاملا متكاملا، ومن دون أية تفسيرات تعطل فعاليته، ومن دون أية شروط تعرقل مسيرته، لا من هذا الجانب ولا من ذاك.

إن الخطاب إشارة فلسطينية مهمة، في اتجاه إدراك التغيير الذي طرأ على تعامل السياسة الأميركية مع المنطقة. التغير الذي يعبر عن التخلي. وهي إشارة كانت مطلوبة وضرورية، ومن الواجب التقاطها والاستفادة منها.