الإستراتيجية الأمريكية والعراق: عناصر الثبات

TT

من الضروري تبين ملامح الثبات في الاستراتيجية الأمريكية، التي لا تتأثر بأي كان الفائز من المرشحين للرئاسة، فابتداء سيكون من الصعب على صانع القرار الأمريكي التخلي عن الفرص الاستراتيجية المتاحة في العراق، لاسيما مع الثمن الكبير المدفوع. صحيح ان الديمقراطيين وهم في طور المعارضة اقل اهتماماً بالانغماس في الوضع العراقي من الجمهوريين، لكن استحقاقات توازن القوى وأهمية الحفاظ على الهيبة الأمريكية، ستكون عوامل أساسية في كبح أي توجه غير عقلاني أو متسرع إذا ما وصلوا إلى السلطة.

فمن المعروف ان لدى الولايات المتحدة قواعد عسكرية تنتشر في عشرات البلدان، وتتحدد حجومها ونوعياتها وأدوارها بحسب طبيعة التهديدات والرؤية الاستراتيجية الأمريكية للعلاقات الدولية، وبشكل عام يتفق الحزبان على ان أمريكا يجب ان تسعى للبقاء كقوة عظمى وحيدة أو رئيسة، ولذلك هي توجه انتشارها العسكري انطلاقاً من ذلك. والشرق الأوسط يعد منطقة حيوية جداً لاستمرار الزعامة العالمية لأمريكا، فهو يضم اكبر خزين من الطاقة في العالم، الأمر الذي يمنح الأمريكيين القدرة على التأثير في اقتصاديات القوى المنافسة الرئيسة، مثل أوروبا والصين واليابان، أو إجبارها على الدخول في مساومات تخدم الترتيبات الأمريكية التي تحفظ لها قصب السبق، ولأن لدى الأمريكيين خزينا استراتيجيا أساسيا من الطاقة، فهم اقدر تكيفاً على التعامل مع تقلبات السوق الناتجة عن عدم الاستقرار السياسي.

الشرق الأوسط يمثل أيضا منطقة ممانعة أساسية أمام فكر وثقافة العولمة وانتشار النموذج الليبرالي والديمقراطية واقتصاد السوق، وقد كان الدخول الأمريكي إلى العراق بداية مرحلة جديدة في التعاطي الأمريكي مع هذه المنطقة المعزولة قيمياً وثقافياً عن النظام العالمي. بالطبع ان «المقاومة» التي واجهها المشروع الأمريكي لعبت دوراً في إضعاف اندفاعه وكبح جموحه وتغيير تكتيكاته، إلا ان أمريكا استراتيجياً تجد نفسها اقرب إلى دعم تأسيس النظم الديمقراطية انطلاقاً من فرضيات عديدة، منها ان بناء السلام والترتيبات البعيدة المدى تكون أكثر فعالية مع وجود نظم ديمقراطية.

وانتقال الاستثمارات في بيئة جديدة يتطلب أمنا وسلاماً لا تحققه إلا نظم منسجمة مع شعوبها، غير ان الميل الأمريكي بعد الكلف الباهظة في العراق سيتجه إلى استخدام الأدوات اللينة في دعم الدمقرطة، مثل مساندة الاتجاهات الليبرالية وغير المتشددة، والضغط لتحسين مناهج التعليم، وتقديم المساعدات الاجتماعية ودعم المجتمع المدني، وأيضا ربما سيلجأ الأمريكيون إلى استثمار الفوضى والفشل الناتج عن سيطرة الجماعات المتشددة على السلطة في بعض المناطق لتغيير المزاج الشعبي، ودفعه لإدراك عقم الاعتماد على المتشددين في إدارة البلدان بسبب استحقاقات السلطة التي تجعلهم مقيدين عاجزين عن تطبيق خطابهم الحماسي أثناء وجودهم في المعارضة. وبكلمة أخرى الوجود الأمريكي في العراق يخدم الاستراتيجية الأمريكية على مستوى الزعامة الدولية وعلى المستوى الإقليمي، في ظل صراع عسكري مع «الإرهاب» وسياسي مع القوى المتشددة وقيمي مع ثقافة «التشدد».

وفضلاً عن ذلك، فأهمية العراق أيضا تأتي من ضرورة تحصينه من ان يكون مصدراً أو فضاء لعدم الاستقرار. لذلك فوفقاً للمرشح ماكين فان الوجود العسكري فيه يظل جزءا من الصراع مع المتشددين، ورغم ان الاثنين يشتركان في أولوية كبح إيران، فإن ماكين يميل الى التصادم، في حين ان اوباما يميل الى دبلوماسية الانخراط والتفاوض. ولكون إيران تمثل مكان الصدارة في السياسة الأمريكية تجاه المنطقة، فإن العراق مهم لتحديد مستقبل هذا الصراع.

وبعد كل شيء فإن الأمريكان يرون ان العراق ما زال بلداً ناشئاً لم يقف على قدميه بعد، وسيستمر الحال كذلك لسنوات مقبلة، مما يعزز الحاجة لوجود طرف يمد مظلته الأمنية لردع أي تهديدات محتملة. وايضاً يرون، ويشاركهم البعض، ان مراكمة ممارسات انتخابية لتداول السلطة تكون ضرورية ومناسبة لترسيخ العملية الديمقراطية ولجم أي محاولات للارتداد عليها، ولبناء مؤسسات الدولة الراسخة وإنهاء القوى الخارجة عنها المنازعة لها حقها في استخدام وحيازة القوة.

التجربة التاريخية تكشف ان أمريكا لم تحتل بلداً ثم تتخلى عن الوجود فيه بشكل كامل، فحتى سنوات قريبة كان هناك ما يربو على مئة ألف جندي أمريكي في ألمانيا، وما زالت هناك قواعد عسكرية أمريكية في اليابان وكوريا. إلا انه أيضا فإن الولايات المتحدة لم تحاول البقاء في أي بلد على الضد من رغباته، ففي عام 1966 حين قرر الرئيس الفرنسي شارل ديغول ان ينسحب من الجانب العسكري من الناتو طلب من الأمريكيين ان يغلقوا قواعدهم في فرنسا، منهياً وجوداً دام عقدين على الأراضي الفرنسية. وفي عام 1969 أغلقت القاعدة الأمريكية الكبيرة في ليبيا بعد طلب قادة الثورة. وفي عام 1979 بعد الثورة الإسلامية في إيران وبناء على طلبها تم إغلاق 27 مركز تنصت تدار من جانب الولايات المتحدة أقيمت بموجب اتفاقية لمراقبة اختبارات الصواريخ السوفيتية. وفي الثمانينات تخلت عن قواعدها في الفلبين وباكستان. وفي عام 2002 سحبت الولايات المتحدة قواتها ومعداتها من المملكة العربية السعودية بعد طلب الرياض، لكن لا تزال هناك اتفاقيات أمنية ووجود أمريكي في حوالي خمس وسبعين دولة منذ الحرب العالمية الثانية. إلا ان ما يجب ان يلحظ هو أن الولايات المتحدة لا يمكن لها إبقاء وجودها في أي بلد على الضد من إرادة حكومته، حيث لا معنى للاحتفاظ بقواعد في أراض معادية، إذ يتعين عليها تكريس جزء كبير من الموارد للدفاع عن الذات.