مفهوم الدولة وتغييب الوعي

TT

الوعي وسيلة عقلية وممارسة ذهنية يسبقها الكثير من الاستحضار والحشد لإدراك البيئة المحيطة، والتعرف عليها.

فالإنسان يمارس هذا الحشد والاستحضار منذ أن تتفتح عيناه على هذه الدنيا، ليتعرف على ما حوله من عالم الأحياء والأشياء ويبذل في ذلك جهداً ذهنياً كبيراً بدءاً بالتعرف على أمه وأنها مصدر إشباع للحنان والطعام والشراب وكل ما كانت قدرات الإنسان العقلية وظروفه النفسية سليمة، كان الوعي بالبيئة المحيطة أكثر سداداً وصواباً وأقرب ما يكون للإدراك السوي. إلا أن هذا الوعي السليم يتعرض لمؤثرات خارجية تحاول اختراقه والسيطرة عليه وبالتالي تغييبه، فتغييب الوعي هو أيضاً ممارسة ذهنية ولكنها ممارسة مضادة للممارسة الفطرية السوية حيث تقوم على التخطيط المسبق واستغلال الظروف العقلية والنفسية وغيرها، للمراد التأثير عليه، للتوحد به ومن ثم عزله ذهنياً عن بيئته لتغيير مسار إدراكه ووعيه.

وتغييب الوعي في منطقتنا لم يعد عملاً فردياً يمارسه الفرد الواحد على من حوله، وفي محيطه القريب بل تحوَل إلى عمل مؤسسي منظم لقلب الفطر والمفاهيم، غرضه إحلال وعي جديد يتماشى مع رغبات ومخططات منظمات وأحزاب، لتحقيق أهداف ومآرب متنوعة تنفذ بآليات وقوالب مختلفة، للتمرد على كثير من المفاهيم، ومن أهمها مفهوم الدولة، تارةً باسم الدين والإصلاح، وتارةً باسم الحرية وحقوق الإنسان، وأخيراً وليس آخراً باسم الطائفة والقبيلة!. فهذه المنظمات والأحزاب ومن يدور في فلكهم وبما لديهم من إمكانات وبنية منظمة تمارس دورها المؤثر على الفرد باستغلال ظروفه النفسية والعقلية من خلال وسائلها وقنواتها المختلفة، في محاولة مدروسة لتغيير وعيه وتحويله إلى آلة في معادلة التشرذم والفرقة، يملكون زمام غرف التحكم بها، ومنها يشنـُّون حملاتهم للنخر في جسد الدولة وإضعافها وبالتالي السيطرة عليها.

إن مسألة إيقاظ الوعي والاهتمام به في دولنا لم يعد مقصوراً على الوعي المتمثل في رفع مستوى وإدراك الفرد للمنجزات الحضارية وكيفية التعامل معها فقط، بل يتعدى ذلك إلى ما هو أهم، وخاصة في هذه المرحلة التي توفرت فيها الوسائل والأسباب بتنوعها، مع صعوبة السيطرة عليها، فاضطربت فيها المفاهيم وتمردت فيها العقول، ألا وهو الوعي بأهمية مفهوم الدولة للفرد والمجتمع والمحافظة عليها. فنحن أمام تحد كبير حاضراً ومستقبلاً للتصدي لمحاولات البعض لتغييب وعي الفرد حول أهمية الدولة للفرد نفسه، مقابل الطائفة، الحزب، القبيلة. والعمل على ترسيخ الوعي لدى الفرد، بأن تحقيق دولة الرفاهية والتقدم والازدهار، لا يتأتى إلا بتوفر الاستقرار المؤسسي السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي في ظل وحدة الدولة وممارستها لمهامها السيادية كاملة. فمن المستحيل إنضاج مشروع الدولة التراكمي ما لم تكن الدولة الحديثة هي الجامع والحاضن لكافة الطوائف والأفراد وليس المُفرق!

[email protected]