العراق: جائزة العرب الكبرى!

TT

لو كانت هناك جائزة استراتيجية كبرى للعرب في هذا الوضع الإقليمي المضطرب، فهي العراق، لا لبنان ولا حتى فلسطين. زيارة وزير خارجية الإمارات الشيخ عبد الله بن زايد إلى بغداد الأسبوع الماضي، وقيامه بتعيين سفير لدولة الإمارات في العراق هما خطوتان في الطريق الصحيح لتفعيل الدور العربي في العراق. لكن الخطوة الإماراتية يجب ألا تبقى خطوة منفردة، بل يجب أن تكون جزءا من استراتيجية متكاملة للدول العربية، للإمساك بناصية المبادرة في عراق بدأ يفلت من أيديها. العراق يتطلب استراتيجية عربية تأخذ في الاعتبار بشكل أساسي أن الدور غير العربي في العراق قد أصبح هو المهيمن، وهنا أعني الولايات المتحدة وإيران وتركيا، على هذا النحو وعلى هذا الترتيب.

إيران غير النووية اليوم تنطلق من العراق كمنصة نفوذ وهيمنة إلى لبنان، وغزة واليمن والبحربن والكويت وكثير من دول الخليج الأخرى. فإذا كان لإيران هذا النفوذ في المنطقة من دون سلاح نووي، فكيف سيكون حجمه إذن عندما تمتلك إيران سلاحا نوويا وتدخل النادي النووي العالمي؟

تاريخيا وقبل ثورة الخميني وما تلاها من حرب إيرانية عراقية مديدة، لم تكن أميركا ولا إسرائيل على خلاف مع إيران ودورها المهيمن في منطقة الخليج. شاه إيران كشرطي للخليج كان دورا مقبولا أميركيا. وذلك القبول في الفكر السياسي الأميركي لم يكن رضى عن آيديولوجية نظام الشاه بقدر ما كان فهما لدور إيران كدولة محورية في الشرق الأوسط، وعامل أساسي في استقراره. بالطبع، بعد الثورة الإسلامية في إيران والعداء الصريح لـ(الشيطان) الأميركي الأكبر، أصبحت إيران في العين الأميركية عامل اضطراب لا استقرار في المنطقة.

فما هو الجديد اليوم في الاستراتيجية الأميركية المستقبلية تجاه الشرق الأوسط؟

كانت الولايات المتحدة ترى في مصر والسعودية ذلك التوازن السني لإيران الشيعية في ميزان القوى الإقليمي، لكن يبدو أن أميركا ومعها أوروبا اليوم، تعود إلى الوراء قليلا في قراءة تاريخ توازن هذه القوى، تحديدا إلى عهد الدولة العثمانية. حيث يرى الغرب اليوم، أن تركيا هي مركز الثقل السني. حيث يرى كثير من المفكرين الغربيين أن تنصيب تركيا اليوم وريثة للسنة في المنطقة يخدم هدفين: الهدف الأول هو إبعاد تركيا عن أوروبا بدغدغة مشاعرها فيما يخص دورها الريادي في العالم الإسلامي، وأن وجودها كجسر بين الغرب والمسلمين أهم بكثير من انضمامها للاتحاد الأوروبي. أما الهدف الثاني، فهو قدرة تركيا من حيث القوة العسكرية على التصدي للتمدد الإيراني عندما يزيد عن حده. الغرب يقرأ التاريخ جيدا، ويدرك أن الدولة العثمانية فقط هي التي استطاعت الحد من تمدد الدولة الصفوية في المنطقة. حيث قام سليمان القانوني، أشهر السلاطين العثمانيين والذي حكم للفترة (من 1520م إلى 1568م) بثلاث حملات كبرى ضد الدولة الصفوية ابتدأت من سنة 1534م وهي الحملة الأولى التي نجحت في ضم العراق إلى سيطرة الدولة العثمانية. وفي الحملة الثانية 1548م أضاف إلى سيطرة الدولة تبريز وقلعتي وان وأريوان. أما في الحملة الثالثة 1555م، فقد أجبر الشاه الإيراني طهماسب على الصلح والاعتراف بأحقية الدولة العثمانية في كل من أريوان وتبريز وشرق الأناضول. والأتراك هم من فصم العروة بين الصفويين والبرتغاليين في تقسيم العالم العربي في العقد الرابع من القرن السادس عشر. حيث واجه العثمانيون نفوذ البرتغاليين في المحيط الهندي والخليج العربي، فاستولى أويس باشا، والي اليمن، على قلعة تعز سنة 1546م، ودخلت عُمان وقطر والبحرين تحت نفوذ الدولة العثمانية، مما أدى إلى الحد من نفوذ البرتغاليين في مياه الشرق الأوسط. وفي أفريقيا، دخلت ليبيا والقسم الأعظم من تونس وإريتريا وجيبوتي والصومال، ضمن نفوذ الدولة العثمانية أيضا. دخول الأتراك اليوم على خط شمال العراق وعلى خط السلام العربي ـ الإسرائيلي، يبدو وكأنه مؤشر لإحياء هذا الدور الريادي القديم في المنطقة، وخصوصا أن الحزب ذا الميول الإسلامية الحاكم في تركيا اليوم ليس بعيدا عن المشاعر الرومانسية المتعلقة بالحنين إلى ماضي دولة الخلافة.

بغض النظر عن التصورات الغربية لأدوار دول المنطقة وتصنيفها لمن هي الدولة الأهم وذات الثقل، لا بد للدول العربية نفسها، أو على الأقل أقسام التخطيط السياسي في وزارات الخارجية العربية، أن تطرح تصورات جدية وعملية للدور العربي في العراق ولبنان والسودان وفلسطين وغيرها. وبما أننا نتحدث اليوم عن العراق، فإنه من الممكن طرح تصور لاستراتيجية الدول العربية تجاه العراق انطلاقا من محورين أساسيين، الأول سياسي والثاني ديني. المحور السياسي يجب أن يرتكز على فرضية فك الارتباط بين إيران والشيعة العرب، بمن فيهم شيعة لبنان. أما المحور الديني فهو يتطلب عملا عربيا جادا لنقل المرجعية على المستوى الديني من قم إلى النجف، ونقل ثقل الحوزات من إيران إلى العراق أو إلى جبل عامل في لبنان. من هذين المنطلقين، يمكننا تصور أدوار مختلفة للدول العربية فرادى أو مجتمعة. قد نختلف أو نتفق على حجم الدور وتوجهه، ولكن يجب ألا نختلف أبدا على ضرورة وجود دور عربي في العراق للحد من الهيمنة غير العربية على هذا البلد، ولمساندته في مفاوضاته الأمنية المعقدة الجارية مع الولايات المتحدة.

مهم جدا في أي تصور استراتيجي لعمل عربي في العراق، هو الدور السوري والنظر إليه على أنه ضلع أساسي في مثلث يجمع مصر والسعودية. وهذا يتطلب من العرب المعتدلين أن يتجاوزوا الأزمة مع سورية، ويعملوا بشكل أساسي لنقل سورية من المربع الإيراني إلى المربع العربي. فالنفوذ الإيراني الإقليمي يتمدد إلى لبنان وإلى فلسطين عبر سورية. إعادة سورية إلى المربع العربي أمر أساسي للاستقرار في العراق والمنطقة، كما هو أساسي في أي استراتيجية تطمح للحد من نفوذ إيران. وهنا لا بد من الحديث عن ما هو المقابل الذي يمكنه إرضاء دمشق؟ أو بصيغة أخرى، ما الذي يمكن أن يقدمه العرب المعتدلون لسورية كمكافأة لها على تلك النقلة؟

سقف المطالب السورية لكي تفك ارتباطها بإيران يتمثل في عودة الجولان، وهو أمر مفتوح للنقاش اليوم من خلال المفاوضات الإسرائيلية ـ السورية برعاية تركية. وبإمكان العواصم العربية الكبرى أن تلعب دورا في فتح قنوات لحوار سوري ـ أميركي في هذا الاتجاه، خصوصا أن الرئيس السوري بشار الأسد، ورغم الوساطة التركية، قد صرح بأنه لا يضمن سلاما مع إسرائيل إلا إذا كانت الولايات المتحدة راعية له. كما أن الدور السوري الأخير في التوصل إلى حل للأزمة اللبنانية في اتفاق الدوحة، هو مؤشر على مرونة بدأ السوريون يبدونها لا بد أن تؤخذ في الاعتبار. وفي المقابل، على دمشق أن تكون أكثر مرونة أيضا مع العواصم العربية الكبرى، فهي في النهاية قادرة على تقديم الدعم المالي والسياسي الذي يجعل سورية في وضع تفاوضي أفضل مع إسرائيل. إذا ما حصلت الولايات المتحدة من دول جوار العراق، على تطمينات أساسية فيما يخص مصلحة الإدارة الأميركية الحالية الملحة في الملف العراقي، فلن يكون لديها تردد في الضغط على إسرائيل في ملف السلام. إذن المعادلة الأميركية، كما ذكرت في مقال سابق، هي ليست «الأرض مقابل السلام»، بل هي «السلام مقابل استقرار العراق».

الدور العربي الإيجابي في العراق، بكل تأكيد، يخدم القضايا العربية الكبرى ويحفز واشنطن للضغط على إسرائيل لتعميق الحوار ليس فقط حول الجولان السوري، وإنما حول فلسطين وقضايا أخرى عالقة. لو كنت ممن يصنعون القرار السياسي ويرتبون الأولويات في السياسة العربية، لوضعت العراق والسودان أولا قبل فلسطين ولبنان.. تحدثنا عن العراق اليوم، وللسودان مقال آخر وتفصيل لاحق.