فنجان من «الأمريكان كوفي» في مقهى المطار

TT

يجدّ الكثيرون ويكدون طوال فصول الخريف والشتاء والربيع، ثم يأتي الصيفُ ليودي بما كسبوه، فينطبق عليهم المثل: «الصيف ضيعت اللبنَ».. ولست ضد السياحة ولا السياح، ولكن أن تتحول السياحة الخارجية إلى عادة قسرية لا تتسق مع مقدرات الكثيرين، حينها تصبح إشكالية مرضية تتطلب علاجاً.. ولي صديق اعتاد حينما يحين موعد الهجرة إلى الشمال صيفاً أن يحزم أمتعته ويرحل كل عام مع الراحلين، فهو يقضي الصيف في كان ونيس، ولا ينسى أن يأخذ نصيبه من جنيف وباريس قبل أن يعود أدراجه إلى بلاده، فهو يختزل عمره في الصيف. أما بقية فصول العام، فتمر به من دون أن يُعِرْهَا اهتماماً، وربما هي كذلك لا تتنبه لوجوده..

صديقي هذا صاحب نزعة أرستقراطية منذ صغره، وتضخمت هذه النزعة عنده لتتحول إلى جنون عظمة، فحينما كنا صغاراً نحلم بالاصطياف على شاطئ البحر، كان يكتفي بفنجان من «الأمريكان كوفي» في مقهى المطار، وهو يتابع الطائرات الصاعدة والهابطة من وإلى عالمِ أحلامه البعيدة..

مات والده فانطلق لأول مرة من عقاله، باع البيت الأول من نصيبه في الإرث، ورحل إلى باريس متنقلا بين فنادقها ومطاعمها الفاخرة. وحينما أنفق آخرَ فرنك في جيبه عاد، وهو يحتضن بين أصابعه نوعاً راقياً من السيجار الكوبي لم يشعله قط، ولسانه يقطر بسلسلة من الكلمات مثل: «مرسي»، «بون جور»، و«أورفوار». كما أنفق ثمن البيت الثاني أمام بحيرة جنيف. أما البيت الأخير في الإرث فامتطى بثمنه صهوة الريح إلى دول اسكندنافيا.. وحتى حينما أصبح «على الحديدة»، وليس له من مظاهر الأرستقراطية سوى «سيجار» محنط، و«بايب» لا تبغ فيه، لم تتخل عنه أرستقراطيته أو يتخلى عنها، فهو يقضي يومه في المجمعات التجارية الراقية، منتصب القامة، شامخ الرأس، شديد الكبرياء، فإذا ما أغلقت الأسواق أبوابها انتقل إلى ردهات الفنادق الفاخرة، فيقضي الليل مع فنجان من «الكابتشينو»، وهو يتأمل قوافل المسافرين تمر بين ناظريه، فيعطر أنفاسه بعبيرها، ويملأ خياله بذكرياتها..

اليوم التقيت به صدفة، فرمقني بطرف عينه اليسرى، ومد لي ثلاثة من أصابعه مصافحا، متفضلا عليَّ بتحيةٍ من أنفه المنتفخ، فارتضيت نصيبي من كرمه ومضيت، وقد علق بكفي فتات من جنون عظمته، تخيلتها تتناثر وأنا أغسلها كريش طاووس.

[email protected]