هبوط عمومي

TT

كنا نسميه الحزن، والغربيون كانوا يسمونه «الميلانخوليا» وفيه احيانا طعم من الفرح. تغتبط فتدمع. تترقى فتسر وتدمع. يسوءك حالك أو حال احد أو حال بلد أو حال أمة، فتحزن. حزن يخامره يأس ويخالطه أسى. وكان ذلك يثبت انك انسان له قلب وله مشاعر وفيه نبل وأحاسيس. ومن كان عكس ذلك كان يسمى، للاختصار، تمساحاً.

الآن تسمى كل تلك المشاعر اكتئاباً أو احباطاً او، بالافرنجي، هبوطاً. ولا تحتاج إلى مواساة بل إلى علاج نفسي. وإذا قلت للطبيب النفسي انك فقدت الأمومة وانت طفل، يراجع أوراقه، ويتأمل الحديقة من النافذة، ثم يقول لك ان المسألة بسيطة: ناقصك فيتامين «بي12» وإذا عبرت له عن حزن لأن وطنك يذوب أمام عينيك وفجور السياسيين، سارع إلى النافذة وتأمل شجر الحور وقال لك، علاجك عندي. فيتامين سي، لكن من غير سكر. انتبه. اطلب النوع الخالي من السكر.

وتقول له، أنا متعب. كيفما كنت متعبا. تقض حياتي ظاهرة الفقر الأخلاقي. يحزنني الانحطاط السياسي.

لا استطيع ان امضي بقية العمر وأنا احن إلى الذين غابوا. لكن ماذا افعل. كلما رأيت هؤلاء أمامي وكلما سمعتهم أجن حنينا إلى الذين مضوا. أو اجن ضيقاً بالذين بقوا. ما العمل؟

يعود الطبيب إلى النافذة. يفكر طويلا. يخلع نظارتيه. يتأمل شجرة الحور: «هل تتناول ما يكفي من الماء كل يوم؟ معك اكتئاب واضح. هل تؤلمك أصابع أطرافك» استغيث: «يا طبيب. يا دكتور. يؤلمني بلدي. توجعني امتي». يعود إلى النافذة ثم يجلس وراء مكتبه: «هذه بالضبط علامات الاكتئاب. معك هبوط دون ان تدري. سوف اصف لك مسكنات لوجع الأطراف». في الجلسة التالية يطلب مني الطبيب ان اتمدد على الكنبة بدل الجلوس على الكرسي. ويسألني: «كيفنا اليوم؟» واجيب بلغة الجمع ايضاً: «الحمد لله». فيقول: «عال. عال. يبدو ان الفيتامين بي 12 فعل فعله. هل اكثرت من عصير البرتقال؟ تناولت حبوب الحديد؟».

وأقول له، يا طبيب، يا دكتور، يا أسطى. يا افندي. انا حزين لا أرى حولي سوى سياسيين انتهازيين انتفاعيين العُبانيين متبدلين بلا صدق بلا مصداقية بلا شفقة بلا مشاعر بلا اخلاق. يذهب إلى النافذة. يتأمل شجرة الحور. ثم يعود: «هذا في علم النفس مرض التخيل الجماعي. ناتج عن عقدة ذنب ناتجة عن أنك مواطن لهؤلاء».