خدام شاهد على التاريخ ومشارك في صنعه

TT

كتب أكرم الحوراني أهم مذكرات سياسية في تاريخ العرب المعاصر. كان الرجل اشتراكيا. لم يكن مثقفا او مفكرا كعادة الاشتراكيين. لا ثقافته اعفته من التنظير والتحليل. جاءت المذكرات حافلة بالمشاهد والأسرار والحركة وروايات القيل والقال المثيرة للقارئ. المفيدة في اطلاع الأجيال العربية الجديدة على جوانب من هذا التاريخ الملتبس والغامض.

أدب المذكرات فن قائم بذاته. صنّاع التاريخ في الغرب يدفعون بمذكراتهم الى دور النشر. هناك هيئة تحرير تقدر قيمة المذكرات. تعيد تحرير جانب منها. تحث صاحبها على التذكر. على إضفاء المشهد والحركة والأسرار والانطباعات الشخصية على الإنشاء والتحليل، فتأتي المذكرات عامرة بالحيوية والإثارة. حافلة بالمعلومات. مفيدة للمؤرخين وللأجيال في تسخير الحاضر والماضي لخدمة المستقبل.

العرب فقراء في أدب المذكرات. امتنع كثيرون عن تسجيل مذكراتهم خوفا من سلطة الحاضر. بعضهم كتب مذكراته بلا معرفة بأدب الرواية وفن الكتابة. جاء معظم المذكرات إنشاء مُملا وباهتا. لم تثر جدلا. لم تقدم معلومات أو انطباعات، على الرغم من أهمية أصحابها وعصرها.

كان أكرم الحوراني محرك السياسة السورية منذ منتصف الأربعينات الى انتهاء حياته السياسية بانقلاب عام 1963 الذي أوصل خصومه وتلامذته في حزب البعث الى السلطة. على الرغم من أهمية المذكرات، فقد تجاهل الحوراني، الى حد كبير، خطأه الفادح في دفع الطائفة العلوية الى الانخراط في الجيش.

عندما أدرك خطأه حاول اصلاحه. كان الوقت قد فات. فقد تمكن أبناء هذه الأقلية الدينية من إحكام السيطرة على المؤسسة العسكرية، ومنها انتقلوا الى الإمساك بالسلطة، فألغوا السياسة والحرية، وشكلوا محنة دائمة لسورية منذ نحو نصف قرن.

عندما قال لي الطبيب ورجل الأعمال جمال خدام ان والده سجل أيضا ذكرياته في ثلاثين ألف صفحة، سعيت الى لقاء الرجل الكبير. جلست إليه ساعات طويلة في دارته الباريسية الجميلة. هذه المذكرات أعتبرها مكملة لمذكرات الحوراني في تسجيل تاريخ سورية بعد الاستقلال. عبد الحليم خدام لا يقل أهمية ودورا عن الحوراني. كان وما زال حاضرا في السياسة منذ أكثر من 60 عاما. كلِّي أمل في أن يركز النائب الأسبق للرئيس السوري على المرحلة التي شارك في صنع سياستها وقرارها، ويختصر ولع البعثيين في الإنشاء، ويصرف النظر عما هو معروف سابقا عن مرحلة تأسيس الحزب وسيرته في الأربعينات والخمسينات التي رواها الحوراني وغيره.

أحب في السياسي ذكاءه. خدام قارئ ممتاز. سياسي محترف بالغ التعقيد. الرجل قصير. ربما لو كان أطول لأقنع بشار بالإصلاح. ما زال محتفظا بوسامته وصحته وأناقته البالغة، على الرغم من اقترابه من الثمانين. أدهشني أبو جمال بحضور ذهنه. يتذكر التفاصيل بدقة. أشعر بأنه لا يكنّ حقدا وضغينة للنظام السوري. بل ينفي أن تكون هناك حكومة خفية أو طائفية حاكمة.

أعتقد ان الرجل أمين في الرواية، إدراكا منه لدور السياسي في خدمة التاريخ والمؤرخ، وفي اطلاع الأجيال الجديدة على الحقائق والوقائع التي عاشها. أما بالنسبة لي، فسأكون أمينا في نقل ابرز وأهم ما روى لي من أسرار وانطباعات. سأحاول أن أقول أين أتفق أو أختلف معه. الرجل صريح وجريء. حديثه حميم. هادئ. متدفق بلا انفعال. آمل ان تكون المذكرات كذلك.

أبدأ هنا من حيث انتهيت مع عبد الحليم خدام. سألته عن هموم الحاضر السوري. عن مشروع صلح بشار مع إسرائيل. قال انه لا يتوقع صلحا مع إسرائيل. لماذا؟ «لأن لا سلام مع إسرائيل إلا من خلال نظام ديمقراطي في سورية» وعلى أساس السيادة على الأرض، والعودة إلى حدود 1967. أضيف من عندي ان الديمقراطية تضفي على المعاهدات والاتفاقات التي توقعها الدولة مصداقية وقوة أكبر. فهي مصدَّقة ومبرمة من خلال مؤسساتها التمثيلية. لكن أعتقد ان تمرير هذه المعاهدات أكثر سهولة في الدولة الدكتاتورية وأشد خطرا، لأن المؤسسات هنا صورية، ولا تمثل الشعب تمثيلا سياسيا حقيقيا.

«بشار لا يدرك ما يصنع». يسترسل خدام. أبوه لم يكن يريد الوصول إلى اتفاق مع إسرائيل. ذهب إليه كبار الضباط العلويين في منتصف التسعينات. قالوا له، إثر محادثات الشهابي/ شاحاك، إنهم لا يريدون ان يتحمل العلويون مسؤولية سلام غير متكافئ مع إسرائيل. الأسد الأب تراجع في اللحظة الأخيرة في محادثات عام 2000 بين الشرع وباراك، متذرعا بعدم اعتراف إسرائيل بحق سورية في مياه بحيرة طبريا، وامتناعها عن القبول بحدود «سورية» تلامس الشاطئ الشرقي للبحيرة.

خدام يشعر بالأسى لما وصلت إليه الحال في سورية. يشعر بالمرارة لتجميد بشار المشروع الإصلاحي. يقول نائب الرئيس الأسبق ان الوضع في البلد سيئ. فقر. تضخم. إثراء غير مشروع. السوريون يصبون اللعنات على «حزب الله». بشار يشعر بالعزلة. يريد استرضاء أميركا.

يقول المعارض السوري الأبرز «إن إيران ماضية في تشييع السوريين من خلال الحوزات (المدارس الدينية) الكثيرة التي أنشأتها في بلدي». استمالت إيران عددا من مشايخ السنة. الأسد الأب حال دون اختراق إيران الطائفة العلوية بالتشييع الجعفري. نظام بشار يتعمد تجاهل تشييع إيران لسنة سورية. لا يدرك خطر المأزق الطائفي والمذهبي على الانسجام الاجتماعي والديني.

في مقدمة أسباب مغادرة خدام نظام الأسد اقتناعه بأن بشار غير جاد في تنفيذ المشروع الإصلاحي. قبل رحيل الأب، كان الابن يتحدث بحماسة عن الإصلاح الاقتصادي والانفتاح السياسي. عندما رحل الأب (2000) «توصلنا في القيادة إلى منهاج للإصلاح». عندما تلكأ بشار تقدم خدام بعدة مذكرات ودراسات، جَمَّدَ بشار آلية الإصلاح تماما. لا إصلاح سياسيا. لا إصلاح إداريا. لا إصلاح حزبيا. لا إصلاح اقتصاديا. لا تطهير للفساد.

ما رأي خدام الشخصي في بشار؟ آه. تربى الشاب وهو يرى أباه يحتكر السلطة. تربى في رفاهية تامة. ازدهرت شريحة اقتصادية جديدة تحصر الثروة في الأقربين.

ذلك عن الحاضر. لكن ماذا يقول خدام عن الماضي والتاريخ؟ عن الصراع بين الأسد وصلاح جديد؟ عن عبادة الشخصية؟ عن توليه الرئاسة؟ عن صراعه مع صدام، عن حلفه مع إيران؟ عن مرضه؟ عن خلافه مع شقيقه رفعت؟ عن إشكالية التوريث؟

ما رأي خدام وانطباعاته عن رجال النظام سابقا ولاحقا: صلاح جديد. نور الدين الأتاسي. أحمد الخطيب. محمود الأيوبي. علي دوبا. حكمت الشهابي. فاروق الشرع. وليد المعلم...؟ ماذا يقول خدام المعارض عن حلفه مع إخوان سورية؟ عن محطته التلفزيونية التي يريد الوصول بها إلى ضمائر السوريين؟

الحديث مع خدام يتواصل. أشعر بأنه يروي بأمانة المؤرخ لا بضغينة السياسي.

إنه حديث مع رجل يعرف كثيرا. مع خدام الشاهد على التاريخ والمشارك في صنعه.