نوري «المنصور»

TT

السيد نوري المالكي، رئيس وزراء العراق، لا يمل من تكرار الحديث عن «المصالحة الوطنية»، ورص الصفوف، ونبذ الطائفية والاختراقات الخارجية، وتطهير قوى الأمن من تأثير الطائفية والحزبية، ويفضل دوماً الحديث عن هويته العراقية وديمومة الدولة العراقية فوق كل انتماءٍ آخر.

هذا ما يردده الرجل منذ أن تولى الوزارة في ابريل (نيسان) 2006 عقب وزارة إبراهيم الجعفري، الذي كان مشغولا بالخطب والتنظير وفتاوى الحج، وحماية ميليشيا جيش المهدي حينما اشتد الخناق عليها، لعل وعسى تفيده بنادق مقتدى وشبابه، في خلق قاعدة شعبية يفتقدها الرجل الحلو الحديث إبراهيم الجعفري.

جاء المالكي على أساس برنامج الأمن، وعلى وقع انتقادات سنية وعربية وعلمانية بالاختراق الطائفي لأجهزة الأمن، وطولب بتطهير وزارة الداخلية من السمعة الطائفية السيئة التي لحقت بها، بعد اكتشاف سجن الموت والتعذيب السري.

صمم خطة بغداد للأمن بعد استفحال التفجيرات والمفخخات، ولم تصنع كبيرَ شيءٍ، ثم انطلق إلى العالم العربي حتى يثبت انه غير إيراني التبعية، وطالب العرب بفتح السفارات في بغداد، وردد كثيرا أن هناك تدخلات إيرانية. كما ردد ذلك جنرالاته في الجيش وقوى الأمن، ولكنه في نفس القوت لم ينس الإشارة إلى «التكفيريين» أي السلفيين السّنة، و«الصداميين» أي البعثيين، ولما استعصى أمر مقتدى وجيش المهدي في البصرة، فارضاً شروطه الدينية على الناس ومحدداً طريقة لبس النساء والرجال ويتجه بعروس الجنوب إلى «قندهار» شيعية، أراد المالكي إثبات أن حزمه لا يفرق بين سني وشيعي، أراد ذلك عمليا بعدما تحدث عنه كثيرا، حتى لا يصبح مثل سلفه الجعفري: جعجعة بلا طحن، فتوجه على رأس قوة كبيرة إلى البصرة ونازل مقتدى الصدر، وقضى، أو اقترب من ذلك، على وجود ميليشيا الصدر في البصرة، ثم توجهت قواته لمدينة الصدر فالشعلة، وصرح حينها: بأنه لدى الشيعة من هم أسوأ من القاعدة! وكان ذلك تصريحا صريحا، من رمز حزبي شيعي معروف.

كل ذلك معروف، والمالكي ذهب إلى طهران، كما أذيع، من أجل هدفين: تطمين الإيرانيين حول خطة التعاون الأمني مع الأمريكان (أو بالأصح إعادة تعريف الوجود العسكري لهم في العراق). والهدف الثاني تقديم الأدلة العملية على تورط طهران، وتحديدا فيلق القدس في الحرس الثوري في إدارة العمليات العسكرية اللاشرعية في العراق.

هل يعني هذا أننا وجدنا أخيرا «مهدي الدولة العراقية» الذي ينتصر للدولة وبالدولة، بصرف النظر عن كل انتماء آخر؟

من المبكر قول ذلك، بل وربما كان من المتهور استنتاج ذلك، ولكن هي خاطرة مدفوعة بأمنية.

نوري المالكي، كما في سيرته الذاتية، انتمى إلى حزب الدعوة (وهو النسخة الشيعية من حزب الإخوان المسلمين) عام 1970. ويقال إنه قتل من أسرته الكثير بسبب العلاقات بحزب الدعوة أيام الحكم البعثي.

غادر نوري المالكي العراق عام 1979 بعد صدور حكم الإعدام بحقه، ومكث في سوريا حتى عام 1982، ثم انتقل إلى إيران. بعدها عاد إلى سوريا واستقر فيها حتى سقوط النظام (هذا الانتقال من إيران يذكر به البعض للبرهنة على تمايزه عن حزب الحكيم الذي ظل مرتهنا لإيران). وأصبح عضواً في قيادة الحزب ومسؤولا عن تنظيمات الداخل طيلة فترة وجوده في المنفى.

المالكي عاد بعد سقوط النظام بقليل عام 2003، بعد هجرة دامت ربع قرن. أسهم في تأسيس كتلة الائتلاف العراقي الموحد. وكان الناطق الرسمي باسمها ورشحه الائتلاف لتولي مسؤولية رئاسة لجنة الأمن والدفاع في الجمعية الوطنية. وشارك بفاعلية في لجنة صياغة الدستور العراقي، وفي لجنة اجتثاث البعث. ثم انتخبه الائتلاف لرئاسة الحكومة عام 2006. هو مرشح الائتلاف إذن، وكان يلقب بحارس الائتلاف، وله تاريخه الحزبي الشيعي الذي يعزز مصداقيته داخل الحزب، وهو الذي وقع، رغم الاعتراضات العربية، على إعدام صدام ورفاقه، وبذلك عزز رصيده في القاعدة الشعبية الشيعية. أي أن لمعانه الشرعي لا غبار عليه تجاه قاعدته. وهذا الأمر قد يكون عاملا مساعدا يكفل له القيام بخطوات أخرى بعيدة عن الحسابات الحزبية الضيقة، باتجاه بناء الدولة العراقية، خصوصا ان النواح على المظلومية الشيعية لم يعد له معنى بعدما أصبحت القوى الشيعية الحزبية هي الأساس في عراق اليوم. وحسب المحاصصة الطائفية؛ فمنهم رئيس الحكومة ونائب رئيس الجمهورية ونائب رئيس البرلمان وربما وزير الداخلية بشكل دائم، فماذا بقي بعد، وعن أي «مستضعفين» ومحرومين نتحدث؟

وضع الشيعة في العراق مختلف عن وضع الشيعة في أماكن أخرى. أتحدث بعد سقوط صدام وبناء الائتلاف الطائفي، فليس هناك من معنى لأن يعيشوا عقدة الضحية أسوة بغيرهم. فهم، وتحديداً مجلس الحكيم وحزب الدعوة، رؤوس الدولة الآن.

المالكي وصل للرئاسة عبر رافعة الائتلاف الشيعي، وعزز ذلك بخطواته «الحيدرية»، تجاه صدام ورفاقه، وكذلك تجاه «القاعدة». فهل هذه الرافعة شرط بقاء له، أم يمكنه تجاوزها باتجاه رافعة أكبر وأدوم هي رافعة العراقيين كلهم، بسنتهم وشيعتهم وكردهم وعربهم؟

هل يتنفس المالكي هواء عراقيا أنقى، بعيدا عن حسابات الحزب والطائفة، وأحقاد التاريخ؟ هل ينتقل من منطق الثورة الدينية إلى منطق الدولة، حتى ولو جاء على عربات الثورة؟ (مع التحفظ على فكرة أن حزبي المجلس والدعوة قاما بثورة تقليدية كما نعرفها في تاريخ الدول).

أحوال المالكي هذه تذكرني بأحوال «رئيس» آخر، سكن بغداد، وأدار منها دولة كبرى عابرة للحدود، في غابر الزمن، الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور، المؤسس الحقيقي للدولة العباسية، وهو الخليفة الثاني بعد أخيه السفاح.

العباسيون كما نعلم، نجحوا في إسقاط الحكم الأموي «الناصبي» حسب الوصف الشيعي التاريخي، وكان العلويون ومعهم العباسيون، أي بني هاشم، يكرهون الدولة الأموية بسبب القمع الذي تعرضوا له على يدها. كان شعار الثورة السرية على الحكم الأموي «الدعوة للرضا من آل محمد»، شعارا شيعيا بالمعنى العام لكلمة شيعة (تحديد وترسيم المذهب الشيعي تم لاحقا، وكذلك نظرية الجماعة والسنة). ووصل العباسيون إلى الحكم برافعة شيعية، ولكن ما إن استتبت الأمور لهم، مع الخليفة الثاني المنصور، حتى انتصر لسلطته ودولته الحديثة، و«لملم» شعارات العلويين، ولما أعادوا الثورة عليه مجددا، قمعهم بشكل أقسى مما فعل الأمويون، ويكفي أن نقرأ ماذا فعل بحركة محمد «النفس الزكية».

وقال الشاعر العلوي في ذلك:

يا ليت ظلم بني مروان دام لنا

وليت عدل بني العباس ما كانا

هل نقول إن المالكي هو كأبي جعفر المنصور؟ ليس بالضرورة، ولكن للسلطة منطقها ونكهتها، ثم إن كرسي بغداد يفتح أبواباً من الرؤية والإبصار تملي على الجالس عليه أن يرى أشياء أخرى غير التي كان يراها، وهو رابض في حلقات التحريض والتثوير والتعبئة الضيقة.

وإذا ما كان المالكي هو المنصور الجديد في بغداد، فلا نتمناه قمعيا ولا متمركزا على السلطة لنفسه كأبي جعفر، بل نريد منه جرأة وشجاعة الانتصار على الشعار الآيديولوجي من أجل العراق والدولة. لم يكن المنصور كذلك، ولا كان المالكي إلى الآن، كما نتمنى ويتمنى العراقيون، كل العراقيين.

سيدي رئيس الوزراء: نرجو أن يكون كلامك الوطني واللاطائفي حقيقياً، مع أننا نرى ثلة من مستشاريك ليسوا كما يبدو لنا رئيسهم، فهم ينطقون بلغة طائفية متوترة، وينطلقون من تفكير حزبي ضيق.

من يدري.. ربما كان هذا الرجل صادقا فيما يقول، خصوصا وهو يستذكر جده الشاعر أبو المحاسن شاعر الثورة الوطنية، ويقول انه امتداد له في الوطنية.

[email protected]