محمد الشرفي والتنوير العربي

TT

لم يتح لي التعرف على المفكر التونسي والعربي الكبير محمد الشرفي الذي توفي قبل أيام إلا مرة واحدة، لكن كانت كافية للتأكد من نزعته الإنسانية العميقة وحبه للخير. وقد فوجئت بتواضعه وهدوئه وسماحة شخصيته. ومَن يراه لا يكاد يظن أنه كان وزيراً للتربية والتعليم في بلاده لمدة خمس سنوات متواصلة. فهو لا يوحي بأي تعجرف أو استعلاء على غرار الكثيرين من المسؤولين العرب السابقين أو اللاحقين. وهذا يعني أن شخصية المفكر فيه تغلّبت على شخصية السياسي. وقد حصل التعارف على هامش المؤتمر التأسيسي الذي عقدته رابطة العقلانيين العرب في بيروت عام 2004: أي قبل أربع سنوات بالضبط. ومعلوم أنه كان عضوا مؤسسا فيها. وقد نشرت له الرابطة كتابه الأساسي مؤخرا بعد أن ترجمته من الفرنسية إلى العربية تحت العنوان التالي: «الإسلام والحرية. سوء التفاهم التاريخي».

وهو يعبّر عن مجمل تفكيره وتوجهاته الأساسية. لذلك فإن رحيله الفاجع بعد مرض طويل جاء بعد صدور الكتاب مباشرة. فلعله شكل بالنسبة له آخر ابتسامة في هذا العالم... والواقع أن محمد الشرفي كان يعتقد فعلا بأن الإسلام هو دين الحرية بشرط أن نفهمه على حقيقته وأن نفرق بين القرآن الكريم وكلام بعض الفقهاء المتطرفين الذين جاءوا بعده. وإنها مأساة أن يكون هذا الدين الكبير قد تحول إلى عكسه بفعل عصور الانحطاط والظلام.

وأشد ما كان يؤلمه هو تشوه سمعة الإسلام والعرب في الغرب بعد ضربة 11 سبتمبر. لذلك فقد حاول توضيح الأمور للغربيين من خلال كتبه ومحاضراته التي ألقاها في العديد من مراكز البحوث وأمام الشخصيات الأوروبية والفرنسية والجمهور العام. وفي إحدى هذه المحاضرات يقول بما معناه: لقد شاعت في الغرب سمعة أن الإسلام دين معاد للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. لكن هذا خطأ في رأيي. فالإسلام في جوهره دين ليبرالي، إنه دين الحرية. اقرأوا كتاب المفكر التونسي عبد العزيز الثعالبي الذي صدر قبل قرن تحت عنوان: الروح الحرة للقرآن. إنه يبرهن فيه على أن النص المقدس للإسلام هو نص يعترف بالحرية ويؤكد عليها. فكيف أصبح إذن دين الديكتاتورية أو الحركات المتطرفة المعادية للحرية والنزعة الإنسانية؟.

على هذا السؤال يجيب المفكر التونسي الراحل قائلا: أعتقد أن جميع الأديان تعرضت في بعض لحظات تاريخها لهذا التشويه أو لهذا الفهم الخاطئ وليس فقط الإسلام. فالمسيحية خرجت عن الإنجيل أيضا وانقلبت عليه إبان الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش وملاحقة العلماء والمفكرين. ثم انتصرت الحداثة الديمقراطية في الغرب وتطورت حتى طبقة رجال الدين ولم تعد متزمتة أو متعصبة كما كان عليه الحال في السابق. وانتصر التأويل الحديث للدين على التأويل القمعي والقسري المفرط في الغلوّ والتطرف. وأصبحت المسيحية الأوروبية ليبرالية متسامحة بعد انعقاد المجمع الكنسي الشهير المدعو باسم الفاتيكان الثاني. وتصالحت مع الحداثة والتنوير. وهذا ما سيحصل في الإسلام لاحقا. فالإسلام ليس أقل قدرة من الأديان الأخرى على التأقلم مع الحداثة، والديمقراطية، والنزعة الإنسانية، وحقوق الإنسان.

في هذه الكلمات القلائل تكمن عقيدة محمد الشرفي وهي الوصية التي خلّفها لنا على ما أعتقد. لكن لكي تحصل المصالحة التاريخية بين الإسلام والحرية، فإنه ينبغي أن تتوافر عدة شروط أولها: إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية. فالطبقات الشعبية تقوم بعملية خلط بين الحداثة والغرب من جهة، ثم بين الغرب ودعم إسرائيل من جهة أخرى. وتستنتج أن الحداثة شرّ كلها بالضرورة. وهذا ما يدعم مواقع الأصوليين المتطرفين ويضعف مواقع التنويريين العرب. وبالتالي فالغرب يتحمل جزءا من المسؤولية عن الوضع الراهن الذي وصلنا إليه: وضع الاحتقان والانسداد التاريخي.

أما الشرط الثاني لتحقيق المصالحة بين الإسلام والحداثة، فيتمثل في دمقرطة أنظمة الحكم وترشيدها وتقليص فسادها. هذا في حين أن الشرط الثالث والأخير يتمثل في تحرير المرأة من قيود القرون الوسطى لكي تصبح إنسانا بالكامل وعنصرا فاعلا في المجتمع ومساهما في تقدمه وتطويره. هذا بالإضافة إلى تحديث برامج التعليم. وهنا يبلور المفكر التونسي الكبير خطة متكاملة ومتماسكة. فهو لم ينتظر 11 سبتمبر ومطالب الغرب والأميركان لكي ينادي بضرورة إصلاح البرامج التعليمية في البلدان العربية والإسلامية. بل إنه لم يكتف بالنداء وإنما طبق هذا التحديث في تونس شخصيا عندما كان وزيرا للتعليم. وكان يأمل بأن تصبح التجربة التونسية قدوة لكل العالم العربي. وكانت خطته الرائعة تتمثل في النقاط الثلاث التالية:

1 ـ التركيز على الجانب العقلاني من التراث العربي الإسلامي، أي عن المعتزلة والفلاسفة وابن رشد.. إلخ، وإدخال نصوصهم إلى برامج التعليم.

2 ـ نشر أفكار الإصلاحيين المسلمين كالأفغاني ومحمد عبده وخير الدين التونسي والطاهر حداد وطه حسين وعشرات غيرهم.

3 ـ نشر أفكار فلاسفة التنوير الأوروبي من أمثال فولتير، روسو، ومونتسكيو، وكانط.. إلخ، وتعليم نصوصهم أيضا في المدارس، بالإضافة إلى نصوص التنوير العربي الإسلامي.

رحم الله محمد الشرفي رائدا ومعلما للأجيال العربية.