«بيان مكة».. هدية إسلامية للعالم

TT

دعوة خادم الحرمين الشريفين إلى الحوار بين الأديان والحضارات باتت تشق طريقها مع «نداء مكة المكرمة»، الذي اختتم مؤتمر الحوار الاسلامي به أعماله منذ أيام. وتوصيته بإنشاء هيئة عالمية للحوار ومركز دولي للتواصل بين الحضارات.

وانها لخطوة بالغة الأهمية، في منطلقها وأبعادها، ومن شأنها، لا أن ترد على المزاعم والتهم الباطلة التي ألصقت بالإسلام والمسلمين ـ بعد 11 سبتمبر 2001 في الغرب ـ فحسب، بل تفتح أيضا، أمام الدول والشعوب، نوافذ للتعارف والتفاهم، وبالتالي للتعايش بسلام. بالإضافة إلى أنها ستعرف العالم بالمبادئ والقيم الإسلامية الحقيقية، وتساهم في إنقاذ البشرية، من المخاطر والأزمات التي تتهددها.

ليس بسر، ان عمليات الإرهاب التي قامت بها جماعات من «الاصوليين الجهاديين المتطرفين»، وكانت عملية 11 سبتمبر 2001 ذروتها في العنف، ألحقت بسمعة العرب والمسلمين، ضررا كبيرا، وشوهت وجهيهما في المجتمعات الغربية. حتى باتت عبارات: «الإرهاب الدولي» و«القاعدة» و«الجهاد»، مرادفة في وسائل الاعلام وفي مخيلة المواطن الغربي، لعبارة الإسلاميين أو الإسلام. وبالرغم من كل ما بذلته الدول العربية والإسلامية، وأصدقاؤها في العالم، من جهد لمحو هذا الانطباع وتكذيب من يغذونه ـ ولا داع لتسميتهم ـ بل بالرغم من تأكيد معظم الحكومات الغربية، ولاسيما الدول الكبرى، «تفريقها بين الاسلام والمسلمين، وبين المتطرفين والإرهابيين.. فإن هذا الانطباع الخاطئ ما زال ماثلا في الأذهان. بل ومؤثرا، بشكل سلبي، على مواقف الدول من القضايا العربية والإسلامية المحقة والعادلة، كقضية فلسطين، ومقاومة الاحتلال، التي تصنفها في خانة الإرهاب. إلا ان الرد على تهم «القسوة» و«العنف» و«حب الموت»، التي ألصقت بالمسلمين، لا يكفي تكذيبها اعلاميا أو نفيها رسميا. بل لا بد من تقديم خطاب إسلامي وعربي ايجابي مقنع، فعلا لا قولا، بأن السلام والعدل والمساواة والحرية واحترام حياة الانسان وحقوقه، إنما هي في جوهر رسالة الإسلام ومبادئه وقيمه.

من هنا كانت مبادرات خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله، ابتداء بمشروعه للسلام في الشرق الاوسط الذي أقرته قمة بيروت، وانتهاء بدعوته إلى الحوار بين الأديان والحضارات، التي ترسم معالم الطريق الذي يمكن ان تتلاقى فيه الدول والشعوب، المتباعدة عن بعضها حضاريا أو المتصارعة سياسيا.

لقد تبصر الملك عبد الله، مخاطر الصدام الذي قد يقود اليه «المتطرفون»، الإسلاميون واليمينيون الغربيون المتعصبون والصهيونيون، العالم. وهو صدام، لن يقتصر على ما يجري اليوم في الشرق الأوسط فحسب، بل قد يدفع العالم بأسره نحو حرب عالمية ثالثة. ومن هنا تولدت القناعة بأن الحوار ضرورة للاعتراف بالآخر وبالتالي للتلاقي والتفاهم.

إن الحوار والتفاهم والاتفاق لا تعني التنازل عن الحقوق والمصالح، ولا التخلي عن المبادئ والقيم، بل ـ بالعكس ـ ربما كان التوصل الى إقناع الآخرين بها وبقدرتها على حل مشاكلهم يمر بالاطلاع على ما عند الآخرين من قيم ومنجزات إنسانية.

بطبيعة الحال، لن تعطي هذه الخطوة الفكرية والسياسية والحضارية، ثمارها قبل سنوات. وبين هذا الأفق الحضاري العالمي المشرق، وما نحن عليه اليوم من نزاعات بين الدول وداخل المجتمعات، ومن قتال وتقاتل مع الدول الغربية، مسافات. ولكن «طريق الألف ميل يبدأ بخطوة». وأهمية هذه الخطوة السعودية هي في انها تطمح الى إشراك العرب والمسلمين في عولمة من نوع آخر، هدفها التوصل الى مشروع عالمي سلمي حضاري مشترك، عن طريق الحوار. وتبديد الأفكار المسبقة السلبية، التي منها تنطلق النزاعات والحروب.

إن المشروع الصهيوني الذي زرع اسرائيل في قلب العالم العربي ـ الإسلامي، بدعم من الدول الغربية، شكل ـ ولا يزال ـ العقبة الكبرى التي يتصادم عندها المسلمون والعرب بالغرب. ومن الراهن، ان النهج او الأسلوب أو الطريقة التي اتبعها العرب والمسلمون في صد هذا العدوان او التغلب على تحدياته، منذ 1948، لم تنجح في تحقيق أهدافها، بالرغم من التقدم الكبير الذي حققته الشعوب العربية والإسلامية، في الستين سنة الاخيرة. وما كادت الحرب الباردة تنزاح عن الصراع العربي ـ الاسرائيلي، والعالم يعترف بحقوق الشعب الفلسطيني، ويرغم إسرائيل على الاعتراف ـ ولو مبدئيا ـ بها، حتى اندلعت الحركات الدينية السياسية الراديكالية، التي راحت ترهب الدول والشعوب الغربية، بل والأنظمة الحاكمة في الدول العربية والإسلامية، وتدفع الدول الكبرى الى اعتبار «الارهاب الاسلامي الدولي»، الخطر الجديد الذي يهددها، و«العدو» الذي تجب محاربته.

ولقد آن الوقت ليتغير الفكر السياسي في العالمين العربي والإسلامي، ولأن تتغير النظرة الى العالم والى العصر والى الآخرين. صحيح اننا أخذنا، حتى الآن، من الحضارة الغربية، العلوم والتكنولوجيا ومعظم وسائل المعرفة الحديثة، ولكن لدينا من المبادئ العقائدية والقيم الإنسانية والاجتماعية، ما نهديه للشعوب والمجتمعات التي أوقعتها المادية والحرية في مشاكل وأزمات اجتماعية ونفسانية وأخلاقية قاسية. ولا شك في ان الانفتاح والحوار والتلاقي أفضل من الانغلاق على الذات واستعداء كل من لا يشاركك في المعتقد أو التفكير.

ان تحقيق السلام العادل في الشرق الأوسط، وتأسيس الحوار بين الأديان والحضارات، هما الطريقان اللذان يتعطل أمامهما صراع الحضارات، ويحولان دون تحول «الحرب على الإرهاب» إلى حرب بين الغرب والمسلمين، تتحول بدورها إلى حرب عالمية ثالثة.

و«نداء مكة المكرمة» الأخير هو أفضل هدية تقدمها المملكة العربية السعودية، باسم المسلمين، إلى العالم.