إذا لم تكن الحرب مع إيران.. فماذا؟

TT

مازلنا في طور الحديث عن مرحلة ما بعد جورج بوش، وقبل أيام انتهت الانتخابات التمهيدية للحزب الديمقراطي بفوز باراك أوباما بالأغلبية التي تؤهله لترشيح الحزب، ومن الآن فصاعدا فإن من يريد مراقبة الانتخابات الرئاسية الأمريكية فإن عليه ليس فقط مراقبة آراء المرشحين الديمقراطي والجمهوري، بل عليه أيضا أن يراقب ما تقوم به كل مراكز المعرفة في الولايات المتحدة. فالانتخابات ليست مجرد لعبة رياضية يستمتع الناس بالمنافسة داخلها، ولكنها الفرصة الزمنية التي وضعها المجتمع الديمقراطي من أجل مراجعة الأفكار والنظريات والاستراتيجيات التي تخص حاضر ومستقبل البلاد. ومنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 فإن منطقتنا أصبحت قلب العلاقات الدولية، ومن هذا المنطلق تواجدت الجيوش الأمريكية على أرض المنطقة، وبحارها، وأجوائها وبكثافة لم تحدث في التاريخ من قبل. وفي الأسبوع الماضي حددنا التوجهات الخمسة للسياسة الأمريكية في مرحلة ما بعد جورج بوش وهي فك الارتباط مع العراق، والاشتباك مع إيران، وإعادة تشكيل توازن القوى في المنطقة، ووضع نظرة أخرى للقضية الديمقراطية في الشرق الأوسط، وتحقيق الاستقلال النفطي عن المنطقة، والتفصيل هذه المرة في مسألة الاشتباك مع إيران.

فحتى وقت قريب كان الظن شائعا أن إدارة جورج بوش الأمريكية لن تترك البيت الأبيض بدون أن تحقق حلمها بضرب إيران؛ فلم يكن ذلك دينها فقط في استسهال استخدام القوة العسكرية، ولكن أيضا لأن إيران في النهاية دولة أصولية إسلامية سخر رئيسها من الولايات المتحدة، وساهم في إحباط خططها في العراق ولبنان. وفوق ذلك كله، وربما أيضا قبله، فإنه تحدث عن زوال إسرائيل. هذه النقطة ربما كانت مثل جهيزة التي قطعت قول كل خطيب، فبالنسبة للمعتقدين أن إسرائيل تحرك كل السياسة الأمريكية فإن حديث الرئيس أحمدي نجاد عن زوال، أو إزالة الدولة الإسرائيلية لا بد أن يكون له ثمن فادح. فلم يخف على أحد أن الرئيس صدام حسين الذي وعد بحرق نصف إسرائيل قد انتهى على حبل المشنقة، ومعه بلاده كلها التي انتهت فعليا، وربما لعدة عقود قادمة، من توازنات الشرق الأوسط. وهكذا فإن الاعتقاد السائد بضرورة توجيه ضربة عسكرية لإيران كان شائعا بين المراقبين والمحللين إن لم يكن لأسباب أمريكية محضة، فهي لأسباب إسرائيلية واضحة. وفي الحقيقة إن الساسة الإسرائيليين لم يكفوا أبدا عن التحريض على ضرب إيران علنا، بل إن كثيرين من أركان اللوبي الإسرائيلي في واشنطن قالوا إنهم لم يكونوا أبدا من أنصار ضرب العراق لأن العدو الأول والأولي كان واضحا أنه إيران.

على أية الأحوال وبغض النظر عما كان، فإن الواضح الآن هو أن مثل هذه الضربة العسكرية لإيران لن تحدث على الأقل في ظل الفترة المتبقية من حكم الإدارة الأمريكية الحالية. ولا يعود ذلك فقط إلى أن الشعب الأمريكي لم يعد لديه الاستعداد الاقتصادي ولا المعنوي للدخول في حرب جديدة، وإنما لأن من ينظر الآن إلى منطقة الشرق الأوسط سوف يجد سعيا حثيثا إلى التهدئة وتجنب المواجهة من جانب إيران. فالتقارير القادمة من العراق تشير إلى انحسار «المقاومة» جغرافيا وعملياتيا وتركيزها في مناطق بعينها في الشمال الشرقي وبعض مناطق الوسط، وتراجع ملموس في عدد الضحايا العراقيين والأمريكيين، وكذلك الضحايا الناجمين عن الصراع الطائفي. ولم يكن ذلك ممكنا لولا أن إيران قد قلصت تدخلها العسكري والمخابراتي، كما رفعت يدها عن تأييد ميليشيات المهدي، وتركت الحكومة العراقية المركزية تضغط عليه وعلى قواته عسكريا ومعنويا.

وبالتأكيد فإنه كان بوسع إيران أن تحبط اللعبة كلها بتكاليف قليلة مثل أن تزود «المقاومة» بصواريخ مضادة للمدرعات والدبابات ولكنها لم تفعل. وفي النهاية فإن التهدئة الإيرانية ـ الأمريكية لم تخص العراق وحده، بل إنها امتدت إلى الساحة اللبنانية التي لعبت قطر بصلاتها الأمريكية والإيرانية دور حلقة الوصل بين الموالاة والمعارضة، ثم بعد ذلك أعطت إيران إشارة عدم الممانعة في الاتصالات السورية ـ الإسرائيلية عبر النافذة التركية، بل حتى لم تعترض على اتجاه حماس نحو التهدئة مع إسرائيل عبر الوساطة المصرية.

الخلاصة أن هذا الاتجاه الإيراني نحو التهدئة أخذ الهواء من أشرعة سفينة العنف الأمريكية من ناحية، كما أن التقدير العسكري الأمريكي لضرب إيران بدد ما تبقى من قدرة على الاندفاع. فرغم أن التقدير الأمريكي للقدرات العسكرية الإيرانية التقليدية كان سلبيا من حيث قدم المعدات ونقص قطع الغيار وفقر التدريب؛ فإن التقدير الأمريكي كان عاليا بالنسبة لقدرات إيران الخاصة بالصراع «منخفض الكثافة» أي ذلك الخاص بالحروب غير التقليدية، حيث نجحت إيران في الماضي في استخدام الألغام بأنواعها المختلفة، والصواريخ المتعددة الأنواع التكتيكية والاستراتيجية، والقوارب السريعة، وكلها قادرة على التأثير على مناطق إنتاج البترول في شرق الجزيرة العربية وحتى إغلاق مضيق هرمز الممر الرئيسي للبترول في العالم.

ومن ناحية أخرى فإن الدراسات العسكرية الأمريكية وجدت أن هناك صعوبات فائقة لتوجيه ضربة عسكرية لإيران حيث يستحيل بسبب المساحة والمقاومة المنتظرة غزو إيران بقوات برية؛ كما يستحيل معها اعتماد الأسلوب الذي تم تطبيقه مع ميلوسوفيتش في يوغوسلافيا حينما تم توجيه ضربات جوية متتالية لقواعد الدفاع الجوي، ومحطات الصواريخ الأرضية، فضلا عن المواقع المحتملة للأسلحة النووية، وكل هذه قامت إيران بنشرها ووضعها بالقرب من المواقع المدنية بحيث يستحيل مهاجمتها من دون إثارة رد فعل عالمي سلبي واسع النطاق.

ولكن استحالة العمل العسكري لا يعني تقاعسا أمريكيا عن الرغبة في تقليص الدور الإيراني الذي يجسد الكراهية للأمريكيين، ويعيد التعبئة ضد الولايات المتحدة تحت راية معاداة الاستعمار، ويحاول في كل ذلك تمثيل الإسلام الأصولي بأشكاله المختلفة العنيفة وغير العنيفة. فالولايات المتحدة تعتقد أن تناقضها مع إيران ليس قابلا للحل طالما استمر النظام الثوري في طهران، ولذلك فإن حل التناقض يمكن إدارته من خلال ما يعرف بـ«إدارة علاقات عدائية» أو ما هو معروف باللغة الإنجليزية The Management of Adversarial Relationship وهي إدارة تدرك التناقضات ولكنها تحلها ليس عن طريق المواجهة العسكرية وإنما عن طريق حزمة من الضغوط المختلفة طويلة المدى حتى يفجر النظام نفسه، وهي الاستراتيجية التي طبقتها الولايات المتحدة بنجاح مع الاتحاد السوفييتي حتى انهار، ومع الصين حتى تغيرت من دولة ثورية إلى دولة معتدلة.

المعضلة بالنسبة لنا في ذلك هي أن لكل إدارة للعلاقات العدائية كان هناك ثمن سياسي واستراتيجي مدفوع من جانب الدول الأقل قوة التي أوقعها حظها العاثر تحت أقدام الأفيال المتصارعة. فكانت دول أوروبا الشرقية هي التي دفعت ثمن الصراع، وإدارة الصراع، بين موسكو وواشنطن خلال العقود الأربعة التي تلت الحرب العالمية الثانية؛ وكانت دول الهند الصينية ـ فيتنام ولاوس وكمبوديا ـ هي التي دفعت ثمن العلاقات بين الصين والولايات المتحدة خلال الفترة التي تلت انتهاء حرب فيتنام.

والسؤال الآن ما هو الثمن الذي تدفعه المنطقة للتغير الممكن في السياسة الأمريكية تجاه إيران من احتمالات الضربة العسكرية إلى إدارة العلاقات والتناقضات الصراعية بين الجانبين؟ والتوقع هنا هو أن الولايات المتحدة من الممكن أن تكون أكثر تواضعا أمام الاحتمال النووي الإيراني، كما أنها من الممكن أن تقبل وجود مساحة لإيران لتحقيق الاستقرار في العراق، ومن الجائز أن تكون لبنان، ووقوعها تحت السيطرة الإيرانية والسورية هي المهدئ للحماس الايديولوجي لكل من طهران ودمشق. ولكن في الوفاق، أو إدارة العلاقات الصراعية، فإن الدفع لا يكون من طرف واحد، وربما كانت إسرائيل وضمان أمنها هو الثمن الذي تدفعه إيران، وبقاء العراق في موقع الدولة المهادنة، وخلوها من عناصر «القاعدة» التي تكرهها إيران في كل الأحوال هي الجائزة التي تحصل عليها الولايات المتحدة.

المشكلة في كل ذلك أن فيه علاقات قلقة، كما أن فيه مؤثرات داخلية كثيرة حيث يضغط المتشددون بقوة نحو علاقات صراعية مفتوحة؛ وأخيرا فإن كل ذلك مرتبط بالرئيس الأمريكي القادم وتوجهات إدارته. وكل ذلك يعرفه الجميع، ومن ثم فإن التوجهات مؤقتة، على الأقل حتى الآن؟!