يا فرنسا.. بغداد لا «أبو هاون»!

TT

أتت زيارة وزير الخارجية الفرنسي كوشنر، الأخيرة إلى العراق، غريبة على الأعراف الدبلوماسية.

ظهر الوزير بمظهر صاحب الجيش الغازي، شأنه شأن البريطاني والأمريكي يهبطان أينما يريدان. تجاوز بغداد: صرة البلاد إلى قرية «أبو هاون» مباشرة، على شط الغراف جنوباً! بينما جرت العادة أن يستقبل الوزير وزير خارجية، ببغداد لا بـ«أبو هاون» أو دوكان.

كما أن ظهور نائب رئيس الجمهورية عادل عبد المهدي محتفياً بالوزير أمام الإعلام بقرية «أبو هاون» ـ التي بدا كأنه عارض من أجلها ـ أعطتها أبعاداً أُخر! غطاء دولياً لإقليم على هيئة دولة، يخالطه تنسم مجد عائلي، حيث أسرع إلى إحياء مضيف مندرس، لم يفكر الأب به بعد استقرارٍ أبدي ببغداد. والأجمل، لو اقتفى الابن مجد الأب في الهم العراقي على انقاض تركة ثقيلة آنذاك، وقد عادت أثقل!

عُرف عبد المهدي المنتفكي (ت 1971) باسم الائتلاف العشائري، بزعامة آل السعدون، لا بلقب شُبْر، من السادة! وهو المولود بالشطرة، وانتقل إلى أراضٍ كانت توزع، في الغالب، على سبيل تأليف القلوب. ثم رحل مبكراً إلى بغداد، وعاش التبغدد، وولد الأبناء والبنات، اللواتي لم يمارس عليهنَّ تعصباً أو يفرض حجاباً، شأن آل الشرقي وآل الآلوسي، وغيرهما من الأجواد.

لعب الأب دوراً مخلصاً في المعارف والاقتصاد، ونيابة البرلمان، وعضوية مجلس الأعيان. احتفظ بعقاله (المقصب)، ودخل المدَنية به من أفسح الأبواب. لم يشاهد، وهو وزير يمثل العراق بأجمعه يتصدر موكب المشائين إلى كربلاء، أو يظهر لاطماً عبر الإعلام، أو سعى إلى تقديم انتماء، سوى العراق! وخلافاً، فعلها الابن، حتى أُشير إليه بمحاولات التبشير لأجل تمذهب سياسي، يوم كان مسؤولاً لحزبه الديني بشمال العراق، وما أثير عندها من ضغائن بين الأوساط! والله يبصر ما في الصدور: أهي مجاملة أم وجد!

وحيرة الألباب: كيف برز صاحب العقال وتفوق في التحضر، وهو لم يدرس بكلية بغداد اليسوعية، ولا بفرنسا. ولا تنفع الابن شهادة الدكتوراه، التي لم يحصل عليها مثلما فهمت، إذا لم يستفد من مدرسة الأب. الأب الذي طالب، في الثلاثينيات، الإكثار من المدارس التي تخلق: «فلاحاً خبيراً، وعاملاً مدركاً، ووطنياً يعرف ما له وما عليه»( خطاب في مجلس مديري معارف الألوية 1933). لكن، ويا عجبي: ما أنشأه الآباء، على حد بيت علي الشرقي (ت 1964): «لم يبقَ إلا الريش.. في قبضة القناص»!

أرى خللاً في أحوال العراق القائمة، أن ينتكس الزمن كل هذا الانتكاس، وتختل المعادلة بين الآباء والأبناء. سعوا إلى وحدة البلاد وتحضرها، وها هم الأبناء يندفعون في مشاريع تقسيمها وتفتيتها وتجهيلها، تحت ثقل الطائفية المسيسة، وبالتأكيد الأحزاب الدينية مشاجِبها! أقول: كيف يرضى مَنْ له ذلك الأب، وما بذله لتعليمه وتنويره، التلويح بعصا الدين، عبر المساجد والحسينيات، في المنافسة الانتخابية، التي تحيل الناخبين والمنتخبين إلى عميان على حد سواء! وهل كان واقعياً وصادقاً مع نفسه عندما ظهر معزياً المهدي المنتظر بضحايا غرقى جسر الكاظمية (2005)، مع أنهم كانوا ضحايا الدعوة إلى الزيارات المليونية التي يتصدرها! أليس في الأمر خدعة للجمهور واستغال لمآسيه، السوابق واللواحق، ويراهن على سذاجته إلى هذا الحد من الاستخفاف!

انتضم صاحبنا في حزب البعث، وأصبح نائياً لرئيس الاتحاد الوطني لطلبة العراق(8 شباط 1963). ويحسب له أنه عندما ذهب مسلحاً برشاش بور سعيد المصرية، وآخرون، للقبض على أحد معارفه، ولم يجدوه ألح أحدهم بالقبض على شقيقته، عندها اعترض وخلصت الفتاة من المحنة. ترك البعث لينشط شيوعياً ماوياً، وأخذ يتحدث بثورية، ربما فاقت ماو وكاسترو وجيفارا! وبعد سيادة الخمينية تحمس لها، وانضوى تحت راية المجلس الأعلى، داعياً إلى دولة دينية، و«سبحان مَنْ جعل الضدين في خلدٍ».

كانت المنتفك (الناصرية) بمجملها نسياً منسياً في ذاكرة عادل عبد المهدي، لذا يأتي مكان مضيف العائلة اكتشافاً جديداً، وحلماً بضيعات وأطيان، وسط منازل ملأى بالغرثى! وإلى جواره ما قاله الإمام علي لأخيه عقيل، وهو يطلب منه عطاءً من بيت المال! أليس هي عقيدة صاحبنا وبقية الزعماء الحالمين بتحويل العراق إلى إقطاعيات!

سبق للحيص بيص(ت 574هـ) أن فخم ممدوحه بالقول: «ما أنصفت بغداد نائبها الذي.. كَبُرت نيابته على بغداد»(النجوم الزاهرة)! فلا تأخذوا ما قاله الحيص مذهباً في التعالي على العراق ككل، بانتفاخ ذات، أو إقليم، أو قرىً. وإذا كان لفرنسا رجاء مصلحة أو تقديم معونة، فبدار السلام لا بـ«أبو هاون»!

[email protected]