شحرورة الوادي

TT

كنت على مدى أعوام أسمع عن (عيد الأم) وأتلفت ذات اليمين وذات الشمال مستغرباً من هؤلاء أشباه (الأطفال) الذين يحتفلون به بحماسة وعاطفة مشبوبة غريبة عجيبة.

صحيح أن فاقد الشيء لا يعطيه، كما أن من ولد وهو أعمى ـ كحالاتي ـ، لا يدرك معنى الأشكال والألوان والأنوار والتقاسيم، وهو بالتالي منسجم ومتعايش مع عالمه المظلم الشاسع الذي لا تحده حدود.

وأعود وأقول إنني كنت على مدى أعوام كذلك أسمع المطرب عبد الوهاب وأحياناً فايزة أحمد وهي تغني (ست الحبايب)، (فأمط) شفتي قائلا: الحمد لله أنه لا عندي ست ولا حبايب ولا ما يحزنون.

هكذا خلقت، وهكذا جئت، وهكذا عشت، وهكذا سوف أموت، وهكذا كذلك سوف أنهض يوم القيامة بعد أن ينفخ الصور في أذني التي أكلها الدود ومات من جراء أكلها متسمماً بما يشبه الزرنيخ.

أعتقد أنه شيء لطيف أن تعيش بلا أم، وشيء ألطف أن تكون لديك (عقدة أوديب)، فلا تهوى ولا تحب إلاّ من كانت في عمر جدتك مثلا، وهذا هو ما كرست حياتي كلها له ـ أو (لهن) ـ.

كل هذا (اللف والدوران) لكي أقول لكم إنني مقطوع من شجرة الأمومة ـ يا حسرة ـ..

أولا: لكي أستدر عطفكم.

ثانياً: لكي لا تترحموا عليّ.

ثالثاً: لكي أتبادل معكم الكلمات.

رابعاً: لكي أدعو عليكم.

خامساً: لكي أقول لكم إن ما أجبرني على كتابة هذا الموضوع (الهايف) هو الكاتب الأمريكي (توماس فريدمان) في مقاله المعنون بـ (اتصل بأمك).

طبعاً ليس لدي وسيلة اتصال، ولا رقم ولا عنوان كذلك، لهذا السبب فقط لم أتصل لا بإنس ولا جان.

وهو يقول عن أمه التي ماتت قبل أيام بعد أن بلغت التاسعة والثمانين ربيعاً من عمرها الحافل ـ وعلى فكرة ـ أنا قلت (ربيعاً) متعمداً، لأن أمه إلى آخر أيام حياتها كانت تلعب (البريدج) مع صديق لها يعيش في صربيا عن طريق (الإنترنت).

كما أنني ما زلت أذكر صديقاً لديه (عقدة أوديب) مثلي، إلاّ أن أمه لا تزال تعيش أو لا يزال هو يعيش في (كنفها)، وكيف أن تلك الأم لديها موهبة فنية خارقة ومكبوتة.

كانت ولا تزال تهوى الغناء وتقليد (أم كلثوم)، وتفتح المسجل على أي أغنية من أغانيها وبيدها (الريموت كنترول)، وتقف في وسط الغرفة بفستانها الطويل ممسكة بالمنديل، وترفع صوت المسجل عندما تعزف المقدمة الموسيقية، ولكن ما أن تنتهي وقبل أن تبدأ كوكب الشرق بالغناء، توقف المسجل، وتبدأ هي بالغناء، وهكذا تتوالى المقاطع الموسيقية وغناء السيدة الأم إلى أن تنتهي الأغنية.

ويقول (الأهبل): إنني وإخوتي الأطفال كنا (نصفق) لها إعجاباً معتقدين أن أمنا أعظم مطربة في العالم، والوحيد الذي كان يذهب كل ليلة إلى فراشه متبرماً مهموماً هو والدي.

الآن فقط عرفت أن (البنات) لسن هن ألطف الكائنات مثلما قالت المرحومة سعاد حسني، ولكنهن من كن في عمر (شحرورة الوادي).

اسألوني، اسمعوا كلامي.

[email protected]