حدائق القصيبي

TT

مضت فترة طويلة لم ألتق غازي القصيبي. ورغم غنى شعره وثراء نثره فلا يغنيان عن قصيدته الأخرى: حضوره. وفي إمكان المرء الحصول على الكتب من أي مكان، لكنها عندما تحمل إهداء من مثل هذا المؤلف ومرتبته، تتحول إلى شهادة يصعب أن تستحق. وقد أهداني الشاعر والروائي والإداري والديبلوماسي والسياسي والأستاذ، ثلاثة مؤلفات. شعر وسياسة.

أي شخصية من القصيبي تريد؟ لديَّ شعور عفوي غير مسند، بأن جيلين من السعوديين على الأقل، كانا يتمنيان لو أنه انصرف إلى الشعر. فلو فعل، لانتقلت إمارة الشعر من مصر إلى الرياض. ولكن هناك فريقاً آخر من رجال الخليج وشبابه ومفكريه، يقولون إنه كان من الأفضل أن يتفرغ للكتابات الفكرية وأن يستخدم كلمته المحترمة والموثوقة، في طرح المشروعات الإصلاحية وإدارة حركة تطويرية في التعليم واستثمار موقعه لدى قادة الخليج وليس فقط في بلاده.

ويرى الأكاديميون أن الفرصة التي ضاعت كانت وصول القصيبي إلى الأونيسكو، التي أضاعها آنذاك إصرار المرشح المصري على خوض معركة نال فيها صوتين. فلو وصل القصيبي الإداري والمثقف لكان قاد من موقعه عمليتين تطويريتين: واحدة في داخل الأونيسكو (المتثائب) أبدا، وأخرى في اتجاه العالم العربي والعالم الثالث. وقد أثبتت الأيام أن أمانة الأونيسكو خسرت مشروع دفق حيوي وإصلاحي وبهتت صورتها الثقافية إلى أقصى الحدود. إلى أي تفرغ كنت أنا أفضل؟ لا أدري. هناك شخصيات تشبه البساتين. في كل موسم لها ثمر وإليها حاجة. وللقصيبي تجربة غنية في كل الحقول وحصاد في كل المواسم.

وعندما استعدت قراءة شعره في «حديقة الغروب» تمنيت مع الفريق الأول لو أنه حقق حلمه الدفين بمحاكاة المتنبي أو إبراهيم ناجي. وعندما انتقلت إلى كتابه «سعادة السفير» قلت في نفسي، ماذا لو كان في الديبلوماسية العربية عشر كفاءات مماثلة. اقرأ هذا الوصف لشخصية صدام حسين الذي يسميه «همام»:

«همام أكثر تعقيدا من أي منهم (هتلر، موسوليني، ستالين) وأكثر استعصاء على الفهم. تركيبة همام النفسية شبيهة بغابة استوائية كثيفة. تجد في الغابة النور والظلام، الفراشات والأفاعي السامة. الحياة والموت. همام ملحد على نحو ما، لكنه مؤمن على نحو ما (...) يعتقد جازما أن له مكانة خاصة عند الله ومع ذلك يرى أن الشريعة الإسلامية قواعد رجعية تجاوزها الزمن وينبغي التخلص منها. همام يعتبر نفسه عربيا قحا ولا يرى أي تناقض بين هذا الانتماء وبين انتمائه المباشر إلى كل حضارة في النهروان سبقت الإسلام. يتصور أنه رجل الشعب، لكنه يعتبر نفسه فوق الشعب، فوق التاريخ، فوق الزمان والمكان».