العراق.. هناك خيار ثالث غير الخيار الإيراني والأميركي

TT

لم يعُد رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي من رحلة تسويق الاتفاق الاستراتيجي، الذي تتفاوض حكومته بشأنه مع الأميركيين منذ أكثر من أربعة شهور، الى طهران إلاَّ بموقف إيراني أكثر تشدداً مما كان عليه سابقاً. فمرشد الثورة علي خامنئي ألقى في وجه ضيفه ردّاً قاسياً قال فيه: إن سبب مشاكل العراق هو الاحتلال الأميركي وليس غيره، وقال رئيس الجمهورية: إذا أردتم ألاَّ نعارض أي اتفاق بينكم وبين الولايات المتحدة فيجب إبرام معاهدة استراتيجية للمنطقة كلها تكون جمهورية إيران الإسلامية عضو رئيسي فيها.

وحسب المعلومات، وهي معلومات مؤكدة، فإن المالكي لم يكن سهلاً ولا متساهلاً مع المسؤولين الإيرانيين الذين التقاهم وعلى رأسهم السيد خامنئي نفسه الذي اعتاد ان تُطَأْطأ له الرؤوس فهو، وفقاً لهذه المعلومات، قال إنه لا يقبل ان يزايد أحدٌ على وطنية العراقيين ولا على تمسكهم بحسن الجوار مع الدول المجاورة لبلادهم، كما أنهم لا يمكن ان يسمحوا بأن يتحول العراق الى مصدر للأذى لهؤلاء الجوار ولا الى مُنطلق عمليات عسكرية ضدهم.

والثابت، وهذه معلومات مؤكدة أيضاً، أن رئيس الوزراء العراقي حمل معه الى طهران وثائق إثبات على مدى التدخل الإيراني في الشؤون الداخلية العراقية وبخاصة في المجال العسكري إن بدعم بعض الميليشيات المذهبية المحسوبة على حراس الثورة مثل جيش المهدي بالذخائر والأسلحة الإيرانية وإن بوجود الشبكات الاستخبارية الناشطة التي تمكنت من تحقيق اختراقات خطيرة في بعض المؤسسات الرسمية وفي الأجهزة الأمنية العراقية.

وبالنتيجة فإن المالكي، الذي من المفترض أن يبدأ بعد أيام جولة تشمل بعض الدول العربية، قد عاد من إيران بقناعة بأن الإيرانيين بمعارضتهم لأي اتفاق بين بلاده والولايات المتحدة يريدون ان يفرضوا إرادتهم على مجمل الأوضاع في العراق وأن يكون تفاوض الأميركيين حول وجودهم العسكري ومستقبلة على الأراضي العراقية معهم هم وليس مع أي طرف عراقي سواءً هذه الحكومة أو الحكومة البديلة التي تُبذل جهود متعثرة مضنية منذ فترة طويلة لتشكيلها كحكومة وحدة وطنية وبرئاسة رئيس الوزراء الحالي نفسه.

والواضح ان الإيرانيين، وهذا ما يُقال في أربيل عاصمة إقليم كردستان – العراق، ان الأيام المقبلة مع إقتراب موعد توقيع الإتفاق الإستراتيجي بين الولايات المتحدة والحكومة العراقية، سيلجأون الى المزيد من التصعيد في العراق وأنهم كمحاولة لمنع هذا الاتفاق من ان يرى النور سيبادرون الى زعزعة الأوضاع الأمنية المزعزعة أصلاً وسيلجأون الى تكثيف أعمال العنف التي اعتبرها حسن نصر الله مقاومة وطالب بدعمها وإسنادها لتكون البديل عن المفاوضات الجارية منذ عدة شهور ماضية وعلى مستويات عليا بين حكومة نوري المالكي وبعض أقطاب الإدارة الأميركية.

وهنا فإنه لابد من إيضاح ان الأطراف المشاركة في حكومة نوري المالكي كلها بلا استثناء ترفض رفضاً قاطعاً ومانعاً بعض البنود التي تضمنتها مُسوَّدة الاتفاق التي تقدم بها الأميركيون كمبادرة من قبلهم والتي بعد تحفظ الوفد العراقي المفاوض عليها جرى استبدالها بـ«مسوَّدة» جديدة من المفترض أنها أصبحت على طاولة المفاوضات.. وتنقل بعض المصادر، على هذا الصعيد، عن رئيس إقليم كردستان العراق مسعود بارزاني أنه أكد أكثر من مرة للأميركيين الذين كثفوا زياراتهم إليه في مصيف صلاح الدين بالقرب من مدينة أربيل أنه لا يمكن ان يقبل لا هو ولا أي عراقي بالمس بالسيادة العراقية مهما حصل وحتى وإن أصبح البديل هو انسحاب سريع ومفاجئ للقوات الأميركية.

والمقصود بالانتقاص من السيادة العراقية هو أحد البنود السبعة التي تضمنتها مسودة هذا الاتفاق المشار إليه والذي يعطي للقوات الأميركية وللشركات الأمنية الأميركية أيضاً وعلى رأسها بلاك ووتر حق مطاردة المشتبه بهم واعتقالهم وإطلاق النار عليهم بدون أي مساءلة أو تحمل أي مسؤولية لاحقة ولعل من الجدير ذكره في هذا المجال هو ان مسعود البارزاني قد قال لكل الأميركيين الذين زاروه في الفترة الأخيرة: ان هذا الأمر دونه جزُّ الحلاقيم وأن سيادة العراق خط أحمر لا يمكن السماح بتجاوزه لأي كان ومهما حصل وحتى وإن وصلت العلاقات مع الولايات المتحدة حدود القطيعة.

وكنتيجة لإصرار العراقيين، حكومة رئيس الوزراء نوري المالكي ورئاسة إقليم كردستان وحكومته، على هذه النقطة بالذات وعلى نقطة أخرى هي ضرورة النص في هذا الاتفاق قيد التفاوض والبحث المشار إليه ألاَّ يكون العراق منطلقاً لأي عدوان وأي عمليات عسكرية وأمنية ضد دول الجوار، ومن بينها إيران بالطبع، فقد اضطر الأميركيون الى التراجع عن «المسوَّدة» السابقة والتقدم بمسودة جديدة هي التي يجري بحثها الآن والتي من المتوقع ان تجري عليها تعديلات جوهرية كثيرة لتكون مقبولة من معظم الأطراف العراقية المعنية ومن معظم دول الجوار وبخاصة الدول العربية.

والمعروف، حسب مسؤول عراقي كبير، ان للأميركيين طريقة في المفاوضات كانوا قد اتبعوها في مفاوضاتهم مع الفيتناميين في سبعينات القرن الماضي وهي أنهم لا يعطون كل ما عندهم مرة واحدة وعندما يُواجَهون بإصرار مفاوضيهم وعنادهم يبدأون بالتراجع شيئاً فشيئاً وخطوة بعد خطوة الى أن ينتزعوا موافقة مبدئية من «الخصم»!! حيث بعد ذلك يرفضون أي تنازلات جديدة وهذا يبدو أنه ما يجري بينهم وبين العراقيين في هذه المفاوضات التي توصف من قبل غير أطراف حلف «الممانعة» بأنها معركة سياسية صعبة وقاسية.

في كل الأحوال يمكن القول ان هذه المفاوضات قطعت شوطاً بعيداً وأن العراقيين، الذين يخشون من ان تلجأ واشنطن الى تفعيل «البند السابع» الذي أرسلت قواتها على أساسه لإطاحة النظام العراقي السابق واحتلال العراق وحجز الأموال العراقية في البنوك الأميركية التي تقدر بأكثر من أربعين مليار دولار، ينوون الاستعانة بخبراء في القانون الدولي وهم، أي العراقيون، قد استعانوا بالاتفاقيات التي كانت أبرمتها الولايات المتحدة مع اليابان وكوريا الجنوبية وألمانيا (الغربية) وتركيا وبخاصة في ما يتعلق بالقواعد العسكرية التي أقامها الأميركيون على أراضي هذه الدول. إن هذه هي حقيقة ما يجري بالنسبة للمفاوضات العراقية ـ الأميركية التي من المتوقع ان تنتهي «نهاية سعيدة»!! في وقت قريبٍ جداً وهنا فإن ما يجب ان يدركه العرب كلهم أنهم إذا بقوا ينؤون بأنفسهم عن هذه المفاوضات وعن الأوضاع العراقية المتردية فإنهم سيجعلون العراقيين في ظل عدم وجود خيار ثالث هو الخيار العربي ملزمين بأحد خيارين فإما الخيار الأميركي وإما الخيار الإيراني، وهذا سيكون بمثابة كارثة محققة للعراق أولاً وثانياً للدول العربية القريبة والبعيدة كلها بدون استثناء.

لا يجوز ان يترُك العربُ نوري المالكي يواجه الضغط الأميركي من جهة والضغط الإيراني من جهة أخرى وحده، فالعراق يبقى بلداً عربياً رغم الاحتلال ورغم تدخل إيران السافر في شؤونه الداخلية والمفترض ان تحتضن الدول العربية صحوة شيعة العراق ضد اعتداء إيران على سيادة بلدهم كما ان المفترض ان يحذو العرب الآخرون حذو الدول التي فتحت ابواب سفاراتها في بغداد وأرسلت سفراءها الى هناك، فالحضور العربي في عاصمة الرشيد الآن وفي هذه المرحلة الصعبة واجب قومي وضرورة وطنية.