العراق: ما بعد نقطة التحول

TT

في كافة الحروب غير المتكافئة يكون هناك وقت تتجه فيه دفة القتال نحو أحد الجانبين. ويسمي الخبراء العسكريون هذه النقطة بنقطة التحول. ولا يعني ذلك أن كل الحروب تتوقف فجأة. ولا يعني ذلك أيضا أن المنهزم سوف يستسلم. ولكن ذلك يعني أنه بعد «نقطة التحول» فإن الخاسر لا تكون لديه رؤية فيما يتعلق بإعادة توازن القوى، التي من غيرها لن تستمر الحرب طويلا.

ففي الجزائر، كانت نقطة التحول في عام 1995 عندما تم عقد أول انتخابات رئاسية بين عدة مرشحين. وأعتقد أن نقطة التحول في العراق أيضا جاءت مع الانتخابات، التي أفرزت أول حكومة حرة بقيادة رئيس الوزراء السابق إبراهيم الجعفري. وقد بذل كل المتشددين وكل القوى الرجعية جهودها لمنع هذه الانتخابات. لكن شجاعة الشعب العراقي أثبتت أنه الأقوى.

ومع ذلك، ففي عام 2005 فإن العديد من الأفراد لم يوافقوني على نظرتي هذه، لأن الجدل الدائر حول العراق قسم العالم قبل أن تبدأ الحرب. وعن غير عمد، كان العديد من الأفراد حسني النية يرغبون في فشل العراق، ما يعني نصر الإرهابيين، ليس لأنهم يحبون القاعدة ولكن لأنهم يكرهون جورج بوش.

ولأن ولاية الرئيس بوش توشك على الانتهاء، فإن العديد من المعارضين للعراق الجديد، لاسيما في الغرب والعالم العربي بدأوا في الاعتراف بأن العراق الجديد لم يفشل، بل إن بعضهم يعبر عن فرحته بهزيمة القاعدة وجيش المهدي وغيرهما من الجماعات الإرهابية. وطالما أن بوش لا ينال الفوز، فكل شيء سوف يكون على ما يرام. وربما ينتهي الحال بالرئيس باراك أوباما إلى إرجاع الفضل إلى نفسه في تحقيق النجاح في العراق، بعد خطاب يلقيه في بغداد وينتهي بعبارة عربية يقول فيها: إنني بغدادي! حيث ان أوباما ينظر إلى نفسه على أنه جون كينيدي الجديد، ولن تكون هناك مشكلة في أن يقلد جاي إف كاي الذي أنهي خطابه في برلين بالمقولة الشهيرة: إنني برليني!

وعلى أية حال، فإن الأمر المهم اليوم هو أنه حتى أشد الأفراد انتقادا للحرب بدأوا في الاعتراف بأن العراق ربما لا يكون المستنقع الذي كان منذ عام 2003.

وحتى أوباما الآن يعترف بأنه على الرغم من عدم وجود «العديد من الخيارات الجيدة» في العراق، فإنه ربما يكون هناك بعض منها!

ومن هذه الخيارات الجيدة، بالطبع، الالتزام بالبقاء في العراق حتى يتم ترسيخ المؤسسات العراقية الجديدة وحتى يستتب الأمن في العراق وحتى يوضع الاقتصاد العراقي على الطريق مرة أخرى.

والآن إلى الأخبار السيئة: نعم كما هي الحال في كل مكان وزمان، فهناك بعض الأخبار السيئة. لقد بدأ طيف الانتخابات يخبو في ذاكرة العراق. ففي ظل الديمقراطية يجب تجديد القوانين بشكل سريع وربما يكون ذلك أسرع مما ترغب فيه النخبة الحاكمة. فمبدأ «رجل واحد وصوت واحد» لا مكان له في الدول الديمقراطية.

وقد أوشكت صلاحية البرلمان والحكومة العراقية على الانتهاء. (ويعتقد الكثيرون أن هذه الصلاحية قد انتهت بالفعل). ولا يفهم كلامي هذا على أنه انتقاد لرئيس الوزراء نوري المالكي الذي يذكرنا تاريخه بأنه قائد شجاع قاد العراق في وقت عصيب. ومع ذلك، فإن الحكومة – ناجحة أو غير ناجحة – تحتاج إلى إعادة الثقة مرة أخرى وفي وقت قريب.

وهناك أسباب عديدة لذلك.

الأول: ان الانتخابات الأخيرة كانت في واقع الحال عبارة عن إحصاء رسمي للسكان. فقد كانت هذه الانتخابات مصممة للكشف عن القوة النسبية للجماعات الدينية والعرقية التي تشكل دولة العراق. فقد كان نظام الانتخابات بالقائمة أمرا لا مفر منه في بلد لم يشهد انتخابات حرة من قبل، وكان يعيش في ظل أكثر الأنظمة ديكتاتورية منذ عام 1958. فالشعب لم يعرف المرشحين المستقلين لأن صدام حسين لم يسمح لأي فرد آخر بالظهور السياسي.

ومع ذلك، فإن الأحزاب السياسية من مختلف الأطياف الرأسمالية والاشتراكية والقومية والليبرالية والمحافظة والإسلامية والاجتماعية، قد قضت خمس سنوات استطاعت خلالها تكوين قاعدة دعم خاصة بكل منها. وفي عراق اليوم، أصبح من الممكن التصويت لصالح برامج الحزب بدلا من القوائم سواء كانت نسبية أو دينية.

الثاني: إن قوائم الانتخاب تضمنت عددا كبيرا من المبعدين السابقين. وكان ذلك لا مفر منه كذلك لأن المبعدين كانت لهم فرص أفضل لتكوين سمعة جيدة عمن كانوا داخل العراق. ومع ذلك، فإن هناك جيلا جديدا من السياسيين في العراق، وهم من الشباب الذي نشأ في هذا البلد وكان قريبا من أرض الواقع ويملأه الحماس للعب دور أكبر.

الثالث: أن نظام التمثيل النسبي المستخدم في الانتخابات السابقة لم يعد مناسبا.

إن العراق في حاجة إلى نظام جديد يمكن للمصوتين من خلاله تكوين علاقة مباشرة مع ممثليهم. ويعني ذلك نظاما من دوائر انتخابية فردية أو جماعية حتى يعرف الشعب من ينتخبه.

وفي التمثيل النسبي، يقرر رؤساء الأحزاب من يدخل الانتخابات ومن لا يدخلها. ومن شأن ذلك أن يشجع على الولاء للحزب بدلا من الولاء للوطن. إن النظام الذي يستثني المستقلين إنما هو نظام غير صالح حتى للأحزاب نفسها لأنها يساعد على إفراز «رجال السمع والطاعة»، بدلا من رجال المحاورة والمعارضة.

الرابع: إن هناك حاجة لانتخابات جديدة حتى يتم اجتثاث الأشجار الميتة في حديقة السياسة العراقية.

ومن هذه الأشجار شخصيات كبيرة. فهناك أعضاء البرلمان الذين لا يكادون يحضرون جلسة واحدة، ويفرحون بالراتب الضخم وركوب العربات المصفحة وتأمين الوظائف الرفيعة لأبناء أقربائهم. وبعض هؤلاء يقضي في لندن وباريس وقتا أكثر مما يقضيه في بغداد.

وحيث ان العراق يستعد لإجراء الانتخابات البلدية، يكون توسيع الممارسة من خلال إجراء انتخابات عامة لتشكيل برلمان جديد. وربما يكون الوقت الأنسب هو نهاية العام الجاري أو في الأسبوع الأول من العام الجديد حيث يكون جورج بوش ما زال في مكتبه الرئاسي ويكون هناك التزام أميركي. وحتى إذا خلف جون ماكين بوش في رئاسة الولايات المتحدة، فمن المرجح أن يشكل الحزب الديمقراطي أغلبية الأعضاء في مجلس الشيوخ والكونغرس، وهو الحزب الذي ما زال مصمما على الانسحاب من العراق وعدم إكمال النصر المتحقق هناك.

فمع البرلمان الجديد والحكومة الجديدة في العراق، ومع تحديث القوانين السائدة، فإن الباحثين عن الهزيمة في الولايات المتحدة سوف يجدون المهمة صعبة أمامهم لفرض ضرورة الانسحاب على الرئيس الجديد في واشنطن.