نهاية حقبة التدخل

TT

جاءت اللامبالاة التي تصل إلى حد الإجرام والتي اتسمت بها استجابة الحكومة البورمية للإعصار الذي ضرب أراضيها الشهر الماضي، ورد الفعل العالمي إزاء هذه الاستجابة، لتسلط الضوء على ثلاث حقائق مؤسفة يتسم بها عالمنا اليوم: أن الحكومات الاستبدادية ما تزال قوية، وأن جيرانها يبدون تردداً إزاء الضغط عليها كي تغير نهجها، وأن فكرة قدسية السيادة الوطنية تحظى بتأييد كبير. وقد ساعد في ذلك الأمر، النتائج الكارثية المترتبة على الغزو الأميركي للعراق. وفي الواقع، يبدو أن الكثير من عمليات التدخل الضرورية التي شهدها العالم خلال العقد السابق لغزو العراق ـ بمناطق مثل هاييتي والبلقان ـ سوف يكون من المستحيل تكرارها في ظل المناخ الراهن.

ويمكن القول إن أول وأكثر هذه الحقائق الثلاث تجلياً هو بقاء الحكومات الاستبدادية في عصر الاتصالات العالمية والتقدم الديمقراطي. وتستخدم العصبة العسكرية المسيطرة على الحكم في ميانمار نفس مجموعة الأدوات التي سبق أن استغلها ستالين في سحق أصوات الانشقاق ومراقبة حياة المواطنين. ومن الواضح أن احتياجات ضحايا إعصار «نرجس» لا تعني شيئاً البتة بالنسبة لنظام يقتصر اهتمامه على الاحتفاظ بالسلطة.

أما الحقيقة الثانية فهي عدم استعداد جيران ميانمار لاستخدام نفوذهم الجماعي من أجل تحقيق تغيير بالبلاد. فمنذ عقد مضى، عندما سُمح لميانمار بالانضمام إلى اتحاد دول جنوب شرق آسيا، أكد لي قادة المنطقة أنهم يضغطون على العصبة الحاكمة في البلاد من أجل فتح الاقتصاد والتحرك نحو الديمقراطية. وبخلاف بضعة مواقف استثنائية، لم يحدث ذلك.

وننتقل إلى الحقيقة الثالثة وهي التأييد المتنامي من جديد لفكرة أن السيادة الوطنية تمثل مبدأ منيعا لا يمكن المساس به من مبادئ القانون الدولي. وقد كان الكثير من الدبلوماسيين وخبراء السياسة الخارجية قد راودهم الأمل في أن يؤدي سقوط سور برلين إلى خلق نظام عالمي متكامل خالٍ من مناطق النفوذ، تلتئم فيه الجروح التي سببتها الحقب الاستعمارية وحقب الحرب الباردة.

وفي ظل هذا العالم، ينبغي على المجتمع الدولي الاعتراف بإمكانية تجاوز مبدأ السيادة في حالات الطوارئ، مثل الحاجة للحيلولة دون وقوع عملية تطهير عرقي أو إبادة جماعية أو إلقاء القبض على مجرمي الحرب أو استعادة الديمقراطية، أو توفير الإغاثة والمساعدات الإنسانية في حالات الكوارث عندما تكون الحكومات الوطنية عاجزة أو غير مستعدة للقيام بذلك.

يذكر أنه في التسعينات، تم خلق عدد من السوابق التي يمكن الاعتماد عليها، فمثلاً تدخلت إدارة الرئيس جورج بوش الأب للحيولة دون حدوث مجاعة في الصومال، ولمساعدة الأكراد في شمال العراق، وأعادت إدارة كلينتون القائد المنتخب إلى السلطة في هاييتي، وأنهى حلف الناتو الحرب التي دارت رحاها في البوسنة، وأوقفت حملة سلوبودان ميلوسوفيتش الإرهابية في كوسوفو، وأوقف البريطانيون حرباً أهلية في سيراليون، وصرحت الأمم المتحدة بتنفيذ مهام لإنقاذ الأرواح في تيمور الشرقية ومناطق أخرى.

ولم تكن تلك الإجراءات خطوات نحو إقرار حكومة عالمية، وإنما عكست وجهة النظر التي ترى أن النظام الدولي قائم بهدف تعزيز قيم جوهرية معينة، بينها التنمية والعدالة واحترام حقوق الإنسان. وفي إطار وجهة النظر هذه، تبقى السيادة مبدأً محورياً، لكن قد تظهر حالات تفرض مسؤولية التدخل ـ من خلال العقوبات أو، في الحالات المتطرفة، استخدام القوة ـ لإنقاذ الأرواح.

ولم يتسبب قرار إدارة الرئيس بوش بالقتال في أفغانستان بإلحاق الضعف بوجهة النظر هذه، لأنه جاء انطلاقاً من مبدأ الدفاع عن النفس. بيد أن غزو العراق، والخطابات المبالغ فيها والصادرة عن الإدارة بشأن الضربات الوقائية، كان أمراً مختلفاً تماماً، حيث نجم عنه رد فعل سلبي ألحق الضعف بمستوى التأييد لعمليات التدخل عبر الحدود حتى في الحالات التي تستحق ذلك. والآن، باتت الحكومات، خاصة داخل العالم النامي، عاقدة العزم على الحفاظ على مبدأ السيادة، حتى في الحالات التي تكون فيها التكاليف البشرية المترتبة على ذلك فادحة. وبذلك، تمتع قادة ميانمار بالحماية من تداعيات أفعالهم المشينة، وتمكن السودان من إملاء شروطه فيما يتعلق بالعمليات العسكرية متعددة الجنسيات داخل دارفور، وقد تنجح حكومة زيمبابوي في تزييف الانتخابات الرئاسية.

من ناحية أخرى، طلب القادة السياسيون في باكستان من إدارة بوش كف يدها عن البلاد، رغم تنامي خلايا «القاعدة» و«طالبان» في شمال غرب باكستان. ورفض الزعماء الأفارقة (وهو أمر ربما يمكن تفهمه) بناء قيادة عسكرية أميركية إقليمية. ورغم الجهود الأخيرة لإقرار مبدأ «مسؤولية الحماية» في القانون الدولي، فقد فقدت فكرة التدخل الإنساني زخمها.

وفي واقع الأمر، لم يمت الضمير العالمي بعد، لكن بعد الاضطرابات التي شهدها العالم السنوات الأخيرة، بات هذا الضمير مشوشاً للغاية. ومن الواضح أن بعض الحكومات ستعارض أية استثناءات في مبدأ السيادة لخوفها من التعرض لانتقادات بسبب سياساتها، بينما ستدافع أخرى عن قدسية السيادة حتى تطمئن من جديد لحكمة اختيار الاستثناءات المقترحة.

وفي قلب هذا النقاش يكمن التساؤل حول ماهية النظام الدولي، وهل هو مجرد مجموعة من الأدوات القانونية التي تحتفظ بها الحكومات لحماية الحكومات؟ أم أنه إطار عمل حي يتكون من القواعد الرامية لجعل العالم مكانا أكثر إنسانية؟

نحن نعلم تماماً كيف ستجيب حكومة ميانمار على هذه التساؤلات، لكن ما نحتاج إليه هو الاستماع إلى صوت ـ وبكاء ـ الشعب البورمي.

* خدمة «نيويورك تايمز»

* وزيرة الخارجية الأميركية 1997 ـ 2001