السياسة الخارجية ـ العربية والأمريكية ـ: (انفكاك).. أم (لنسقط متحدين)؟!

TT

كيف يكون الحال بعد أن يرحل، وقد نعاه الناعون وهو لم يزل (مقيما) في البيت الأبيض؟!.. إن مئات الكتب والدراسات صدرت في الولايات المتحدة تكشف (المستور المفزع) لفترة حكم بوش وجماعته، فكيف يكون الحال بعد رحيله؟!.. إن المتوقع ـ بيقين ـ هو: ان هذا السيل من الكتب والتقارير سيزداد تدفقاً وحدّة وصراحة: أشد صعقا، حيث يفك أسر الإعلام المكبوت والخائف والمستضعف والمنافق.. فقد اتهم سكوت ماكليلان (المتحدث الرسمي السابق باسم الرئيس جورج بوش) اتهم أجهزة الإعلام الامريكية بمداهنة بوش، وبالترويج لعمليات الخداع والتضليل التي يطلقها البيت الأبيض لتضليل الرأي العام الأمريكي قبل أي شعب آخر.. وبرحيله سيزول هذا الكابوس، وسينكشف الملف المروع كله عندئذ: بصورة غير مسبوقة في أمريكا وانج سعد، فقد هلك سعيد.

وسعيد معروف.. أما سعد فهو رمز لساسة عرب لا يزالون نائمين أو لا يزالون في حالة نعاس وتثاؤب على أحسن افتراض.

ولكي ينجو سعد هذا: عليه أن (يصحو) أولاً ويستيقظ.. وأول الصحو هو: الوعي والمعرفة والاطلاع على ما يقوله قوم بوش أنفسهم عن بوش وإدارته.. فهل يفعل ساسة عرب طال نومهم؟

ونتطوع بـ(القراءة) لساسة عرب لا يقرأون، فلعل ذلك يكون بمثابة نصح أو مشورة غير مباشرة.. وحصيلة القراءات مستفيضة يصعب تقديمها الآن.. ثم انه من (اللطف بهم ألاّ نثقل عليهم، لذا نصطفي خمسا ـ فحسب ـ من هذه القراءات:

1- في كتابه الجديد (مأساة بوش)، قال الكاتب جاكوب وايزبرج: «وجد جورج بوش نفسه غير قادر على الالتزام بالنموذج الذي يمثله والده، ولذلك اختار أن يكون الشخص المعاكس لسلوك والده، اختار أن يكون شخصا مستهترا لا يكاد يهتم بأي شيء، حتى بشعبيته أو إرثه الذي سيتركه في البيت الأبيض.. وانه لأجل منافسة والده منافسة عكسية ـ كوالد عاقل ومعتدل وعملي ـ (درَّب بوش الابن نفسه على ان يكون متسرعا ومتطرفا ومتحجرا، فهو شخص لا يفكر في أخطائه ولا في أهمية تصحيحها».

2- القراءة الثانية في كتاب رجل لصيق جدا ببوش وهو سكوت ماكليلان (المتحدث الرسمي السابق باسم بوش).. يقول ماكليلان في كتابه الجديد المزلزل (ماذا حدث: صناعة الخداع في البيت الابيض).. يقول: «إن عمليات هائلة من الكذب والتضليل المبرمج كانت تجري في البيت الأبيض، يصنعها فرسان خمسة هم: المستشار السياسي والاستراتيجي للرئيس: كارل روف.. ومدير مكتب نائب الرئيس: سكوترليبي.. ورئيس أطقم العاملين بالبيت الأبيض: اندرو كارد (كان يرأس مجموعة العراق).. ونائب الرئيس ديك تشيني.. ثم الرئيس جورج بوش نفسه.. لقد خرج بوش عن المسار الصحيح بشكل مخيف وتبنى توجها دعائيا ضخما ودائما مبنيا على الأكاذيب، توجها قاتلا ودافنا لقيم الصراحة والوضوح والصدق عن عمد.. ومن هذه الأكاذيب الضخمة المميتة: كذبة وجود أسلحة دمار شامل في العراق التي ترتب عليها خطيئة استراتيجية جسيمة وهي غزو العراق، كل ذلك في ظل (التلاعب بالآلة الإعلامية).. فخوف بوش من الصحافة الليبرالية يعين على تفسير سلوك مساعديه واصرارهم على بناء (جدران) لعزل وسائل الإعلام عن حقيقة ما يُصنع من خداع وتضليل.. وكنت (أي ماكليلان نفسه) أجد نفسي أحيانا كثيرة موجودا على الجانب الآخر من الجدران مع الإعلام المعزول»!!.

3 – القراءة الثالثة في كتاب فرانسيس فوكوياما الجديد (أمريكا عند مفترق طرق).. يقول فوكوياما: «لقد ارتكبت الإدارة الأمريكية خطأ قاتلا بغزوها للعراق ثم تضاعفت كوارث الخطأ بعاملين اثنين. العامل الأول: ان ادارة بوش لم تفلح ـ قط ـ في ادارة احوال وتداعيات ما بعد الحرب.. والعامل الثاني هو: الفشل التخطيطي والتطبيقي في إعادة بناء العراق.. ومن الأسباب الدفينة للخطأ الكبير القاتل: أن أجندة السياسة الخارجية للولايات المتحدة وضعها المحافظون الجدد في السنوات التي كانوا فيها خارج السلطة قبل انتخابات عام 2000، وهي سياسة تقوم على الهيمنة، وتغيير الأنظمة السياسية والاجتماعية بالقوة، والعمل على أن تتفرد الولايات المتحدة بإدارة شؤون العالم».. ولشهادة فوكوياما وزن خاص لأنه كان من المحافظين الجدد، ولكن من حسن حظه، ولشدة ذكائه: بكّر بالتحرر من سجنهم الفكري والسياسي الرهيب، وطفق ينتقد وينقض مقولاتهم واستراتيجياتهم في أكثر من كتاب.

4 ـ القراءة الرابعة: أقرت لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ الأمريكي تقريرا مكتوبا ينصب على توجيه (اللوم الوطني) ـ وبشكل مباشر ـ الى الرئيس جورج بوش وإدارته بتهمة إساءة استخدام المعلومات الاستخبارية لتبرير الحرب على العراق.. ومما جاء في هذا التقرير الموثق «ان الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني ومساعديهما ومنهم وزير الدفاع السابق دونالد رامسفيلد ومساعده دوجلاس فيث وستيفن هادلي. هؤلاء قاموا ـ بتعمد ـ باستخدام معلومات ليس لها أي أسانيد ولا أساس لدفع البلاد الى الحرب في العراق».. ولقد صوت لصالح التقرير ـ الى جانب الديمقراطيين ـ شيخان جمهوريان من أعضاء اللجنة وهما: السيناتور تشارك هيجل، والسيناتور أوليفياسنو.. واعترف أعضاء اللجنة بأن ما جاء في التقرير هو إدانة حقيقية لبوش وإدارته وان ما قاموا به هو جريمة كبرى تستدعي القيام باجراءات عزل هؤلاء بموجب سلطات الكونجرس إلا ان العامل الزمني (قرب انتهاء ولاية بوش) كان في صالحهم!.

5 ـ في أواخر مايو المنصرم: أصدر الجيش الأمريكي تقريرا احصائيا مرعبا: بالغ الرعب ـ للشعب الأمريكي وللعالم كله ـ .. ومما جاء في هذا التقرير: ان الاحصاءات المسحيّة الميدانية أظهرت ان معدلات الاضطرابات النفسية والعقلية والسلوكية في صفوف القوات الأمريكية ارتفعت الى 18931 حالة عام 2007 بعد أن كانت 9459 حالة عام 2006.. وقد ارتفعت الاعداد بعد أن أرسل بوش مزيدا من القوات للعراق، وبعد أن زاد خدمة الجندي من 12 الى 15 شهرا.. ويصل بذلك عدد حالات (التلف) النفسي والذهني والسلوكي لدى أفراد القوات الأمريكية العاملة في العراق الى 66393 حالة في الفترة من الأول من يناير 2003 الى 13 ديسمبر 2007.. وتتوزع الحالات الانتكاسية هذه على النحو التالي: 56382 حالة بين مشاة البحرية.. و4882 حالة بين أفراد البحرية.. 6742، حالة في القوات الجوية (ملاحظة: لم تشمل هذه الاحصاءات حالات الانتحار التي بلغت الألوف، ولا حالات هرب ولجوء أفراد عسكريين أمريكيين الى كندا وغيرها).

هل قرأ ساسة عرب (وثقوا بالسياسة الخارجية الأمريكية أكثر مما ينبغي ويلزم) هذه البلايا والكوارث؟.. إذا كانوا لم يقرأوا فكيف يحكم ويدير شؤون الدول من يجهل ـ بالمطلق ـ ما يفعله حليفه، وما يجره عليه من كوارث ماحقة؟.. وإذا كانوا قد قرأوا ـ وعلموا ـ فماذا هم فاعلون بعد أن جنحت سفينة الزمرة إياها الى الغرق (وفق شهادات وحقائق أمريكية موثقة)؟.. هل يسلكون مسلك النجاة ـ بموجب العقل أو الغريزة ـ فينفكون ـ ولو في آخر لحظة ـ عن فلك الحمق والغباوة والطيش والهلاك؟.. أم سيصرون على الغرق مع تلك الزمرة الغاربة، رافعين شعار (لنسقط متحدين)؟!!!!.

إن (الأنانية) ـ الشخصية والوطنية ـ تأنف وتنفر من اختيار المصير الأخير البائس.

ولئن فات هؤلاء الحكام العرب استدراك أمور كثيرة ـ ورطتهم فيها هذه الإدارة المستهترة ـ فإنه من الممكن حماية الأرجل من السقوط في فخاخ أو هاويات جديدة نصبتها لهم زمرة (المحافظين أو المهابيل الجدد):

أ ـ فخ الترتيبات التي ينخرط فيها البيت الأبيض لأجل (نقل) السفارة الأمريكية من تل أبيب الى القدس بهدف أن يسجل اسم بوش في (سجل الخالدين الذين خدموا نبوءات التوراة)!!.. لقد قال الناطق باسم وزارة الخارجية الأمريكية شون ماكورماك ـ منذ أيام ـ: «إن القانون الأمريكي يعتبر القدس عاصمة لإسرائيل وانه يجب البدء في نقل السفارة الأمريكية إليها»!

ب ـ فخ (ديمومة احتلال العراق) عبر اتفاقية أمنية تبقي على الاحتلال الأمريكي للعراق الى ما لا نهاية: في صورة ملطفة الإخراج، ولكن مضمونها هو (الاحتلال) بمعناه السياسي العسكري الاستعماري.

إن هذين الفخين ـ على سبيل المثال ـ سيقوضان ـ بلا ريب ـ الاستقرار السياسي والأمني والاجتماعي في المنطقة، وهو تقويض سيطال كل نظام عربي ـ بلا استثناء ـ في هذه المنطقة المحزونة المكروبة المستباحة.. فالفلسطينيون ـ بمن فيهم الذين يسمون ـ أمريكيا ـ بالمعتدلين لن يقبلوا بتسوية تجعل القدس عاصمة أبدية لاسرائيل، وإلا انتحروا سياسيا.. وعدم قبول مثل هذه التسوية: إنما هو استمرار الصراع وتصعيده وتأجيجه في الإقليم كله.

أما فخ (تأصيل) الاحتلال الأمريكي للعراق فهو الذي سيفتح أبواب جهنم العاجلة على المنطقة ومن فيها وما فيها.. فتأصيل الاحتلال سيؤدي ـ بالضرورة ـ الى تأصيل (المقاومة) له، وبذلك يصبح العراق (بؤرة دامية) باستمرار ترجم المنطقة كلها برجوم التطرف والتفجير وعدم الاستقرار.