من غير ليه!

TT

عندما التقى الموسيقيان فاغنر وأوبير لأول مرة قال أوبير: «لقد مضت ثلاثون عاما من عمري قبل أن اكتشف أنني لا امتلك موهبة في الموسيقى»، فرد فاغنر في دهشة: «إذا أنت تنوي الاعتزال؟»، فقال أوبير: «لا داعي للاعتزال فشهرتي أصبحت تكفل استمرار نجاحي».

وفي ساحة الفن العربي المعاصر ثمة مطرب شهير، لصوته حشرجة من انتهى لتوه من التهام نصف خروف.. تجرأت ذات مرة وسألت أحد الملحنين الكبار ممن غنى لهم ذلك الفنان عن السر في شهرته، فأجابني وهو يقلد بصورة هزلية صوت ذلك الفنان، وقال: «في كل مرة أسمع لحنا لي بصوته أشعر أن أطنانا من حبات الطماطم ستنهال على رأسي في الطرقات، وتكون المفاجأة حينما يستقبلني الناس بورود الكلام»..

وفي ملاعب الكرة تشاهد لاعبا طوال المباراة يوشك أن يكون ضيف شرف، وتقرأ الصحف في اليوم التالي تتحدث عن النجم الكبير الذي أطرب الجماهير، وباعتبارك لم تطرب تعيد عرض المباراة، وفي يدك ورقة وقلم لتكتشف أن 80% من تصويبات وتمريرات ذلك النجم كانت «حولاء»، وأن الـ20% الأخرى لا تتطلب مهارة ولا إعجازا، فهل عليك أن تفقأ عينيك لتصدق ما يكتب عن ذلك اللاعب المشهور، الذي أطرب الجمهور؟!

ولا تقتصر شهرة «الغفلة» هذه على الفن والكرة، وإنما تمتد أيضا إلى ساحة الكتابة والأدب، وقد كنت ذات يوم أشارك في تفريغ نتائج استطلاع عن أفضل الكتاب في إحدى الصحف المحلية، وتوقعت أن تنصف نتائج الاستطلاع عددا من الكتاب المميزين، ولكنها خيبت ظني حينما وضعت بعض محدودي الموهبة في المقدمة، وهوت بمن يعتقد أنهم الأفضل في قاع الاختيار.. ولم تجرؤ تلك الصحيفة على نشر نتائج ذلك الاستطلاع «الفضيحة»، وآثرت أن تكتفي بتبادل نتائجه مع المقربين على شكل طرفة تستحق التداول..

وفي إحدى المرات التي اشتغلت فيها في تحرير بعض المطبوعات ركضت طويلا خلف أديب شهير لاستكتبه في تلك المطبوعة، وحينما استجاب، وتفضل، وتلطف بعد تمنع أحسست أنني أمام كارثة عقلية، وليس نصا أدبيا، وتساءلت يومها بيني وبين نفسي: كيف أمكن لهذا الرجل أن يصنع كل تلك الشهرة، وأن يتضخم كبالون؟! وهل ثمة عوامل أخرى غير الموهبة يمكن أن تسهم في تحقيق الشهرة؟

من المؤكد أن ثمة من يستحق الشهرة، ولكن أيضا ثمة من تركض إليه الشهرة «من غير ليه»، وفي كل مرة أصر على السؤال تتداخل في الذهن العبارة التي كان يرددها معلم الكتاب على أسماعنا صغارا: «من جد وجد، ومن زرع حصد»، فكنا نرددها خلفه في سذاجة، وكبرنا لنكتشف خداع العبارة، فلسنا اليوم على يقين بأن من زرع حصد، فلرب حاصد لم يعفر كفه قط.

[email protected]