«حاميها حراميها»

TT

استيقظت مكاتب رقم 10 داوننج ستريت صباح الخميس على زفرات تنفس الصعداء لنجاة رئيس الوزراء العمالي غوردون براون ليلة الأربعاء من الهزيمة في تصويت حرج في مجلس العموم بعد ان ضبطته العدسات يقضم أظافره في توتر شديد قبيل دخوله الجلسة.

اتفقت الصحافة ـ يمينا ويسارا ـ بان تمرير المجلس لمشروع تعديل قانون مكافحة الإرهاب بحجز المشتبه فيهم لمدة ستة أسابيع (بدلا من أربعة) قبل توجيه التهمة ودون تقديمهم للمحاكمة، لن يسجل لبراون كإنجاز سياسي او نجاح برلماني.

وفي هذا التصويت درس وعبر لأنصار ودعاة الديموقراطية بين قرائنا الأعزاء.

حكومة العمال التي تتمتع بأغلبية 66 نائبا نجت من الهزيمة البرلمانية بفارق تسعة أصوات، غير عمالية، لنواب الحزب الديموقراطي الوحدوي من ايرلندا الشمالية.

النتيجة التي توقعتها الصحافة قبل التصويت بأسبوع، تعكس ضعف براون وعجزه عن حشد التأييد داخل حزبه. وكشفت الصحافة بان براون كلف دافع الضرائب مليار ونصف المليار جنيه إسترليني (قرابة 3 مليارات دولار) «لرشوة» النواب التسعة بامتيازات وتنازلات ضرائبية في دوائرهم ما دفع نواب المعارضة باتهام الايرلندين «ببيع ضمائرهم».

دافيد دافيز، وزير داخلية الظل وصف انتصار براون بـ«غير المشرف» عن طريق رشوة، قائلا انه خسر المعركة الأخلاقية محذرا بان مشروع القانون اخطر تهديد للحريات منذ توقيع الملك جون للماجنا كارتا، اقدم ميثاق للديموقراطية وحقوق المواطنة عام 1215. الدرس الآخر لخصته «لائحة الشرف» من أسماء 36 من نواب الحكومة، تمردوا عليها وصوتوا ضد المشروع لأنهم رأوا دورهم حماة للديموقراطية والحريات، وليس حماة لشعبية الزعيم، مثلما قالت، ديانيا ابوت، اول نائبة سوداء تدخل البرلمان محذرة من ان مناورة رئيس الوزراء براون لاظهار حزب المحافظين المعارض متساهلا في امور الامن ستدفع الامة ثمنها بفقدان حريات ناضلت الاجيال من اجلها.

نيقولاس كليج، زعيم حزب الأحرار الديموقراطيين، تساءل عن الدوافع الحقيقية لبراون «لماذا يضيع وقت المجلس وهو يعرف جيدا ان مشروعه سيلقى هزيمة نكراء في مجلس اللوردات الذي سيعيده مهلهلا الى مجلس العموم؟».

وهذه فرص لتصحيح مفهوم البعض الذي يقصر الديموقراطية على صندوق الاقتراع. فزيبمابوي تشهد اعادة الانتخابات في مناخ لا علاقة له بالديموقراطية. ورغم نزاهة الانتخابات البرلمانية في ايران مثلا، لا يمكن وصف النظام بالديموقراطي، لعدم السماح بترشيح اي شخص لا يخضع للآيديولوجية الشمولية للجمهورية الإسلامية التي ترفض حق الفرد في حرية الاختيار. كما ان أغلبية الأنظمة الجمهورية في العالم العربي لا يمكن وصفها بديموقراطيات ناضجة رغم وجود برلمانات منتخبة في أكثرها.

المفارقة ان مجلس اللوردات غير المنتخب (دخله أعضاء بالوراثة الأرستقراطية وبحكم المنصب) يقع على عاتقه اليوم حماية الحرية والديموقراطية التي تلقت لطمة عنيفة على يد مجلس العموم المنتخب الذي سقط في امتحان حماية حريات الأمة.

اليمين المحافظ، هو الذي قاد الحملة النبيلة لحماية الحرية من غوغائية حكومة يسارية. اليسار البريطاني، واغلبه من جمهوريين، يرفضون تاريخيا مبدأ استقلالية مجلس اللوردات ويطالبون بمجلس شيوخ منتخب على غرار مجلس السناتور الامريكي، في خطوة تقربهم من حلمه بإلغاء الملكية (وهو ما لا يحظى بتأييد شعبي لحسن الحظ). لكن اليسار توحد مع اليمين في معارضة مشروع قانون الحكومة الذي يهدد الحريات. المفارقة ان اليسار يضع كل آماله اليوم في المحافظة على الحريات المدنية في رفض مجلس اللوردات (الذي يكرهه اليسار بمفاهيم الصراع الطبقي) لمشروع القرار الأخرق.

وهذا يثلج صدورنا، كمعلقين محافظين جادلنا دواما بان مجلس اللوردات، هو صمام امن الاستقرار والديموقراطية والحرية ضد رعونة مجلس العموم أحيانا وانسياق أعضائه وراء الصوت الانتخابي الغوغائي.

اللوردات «حكماء القبيلة»، فبعضهم حصل على مقعده بالوراثة، ومنهم كبار القضاة (والقضاء مستقل هنا) وكبار رجال الأديان الكبرى (بما فيها الإسلام) وشيوخ الدولة. ولان خسارة الصوت الانتخابي الغوغائي لا تدخل في حساباتهم، تجدهم يضعون مصلحة الأمة على المدى الطويل والمنطق وحكم القانون قبل المصلحة الحزبية المرهونة بموعد الانتخابات.

وتحضرني المقارنة مثلا باستقرار وعدالة الأنظمة الملكية مقابل غياب الاستقرار عن الأنظمة. فكل الديكتاتوريات جمهورية النظام. أما الملك كراس الدولة فهو الأب لجميع طوائف الأمة وتياراتها، يسمو فوق الخلافات الحزبية. فالملك لا يدخل البلد في مغامرة غير محسوبة العواقب طمعا في الشعبية الغوغائية، أو يخرب الخزانة بفائض علاوات خارج الميزانية عشية الانتخابات.

الدافع الأساسي للمعركة البرلمانية التي افتعلها براون بمشروع قانونه المهدد للحريات مستغلا غريزة خوف الناس من الإرهابيين هو ظهوره متشددا في مسالة الأمن لزيادة شعبيته المتدهورة إلى أدنى حد سجله رئيس وزراء في التاريخ الحديث.

المعركة شغلتنا كصحفيين ومعلقين بمتابعتها ودق كتاب الرأي لناقوس الخطر محذرين من هجمة على الحريات باسم مكافحة الإرهاب، بدلا من انتقاد اداء الحكومة المزري في مجال الاقتصاد. وبالتالي دارت حسابات براون حول زيادة شعبيته المتدهورة لشغل الصحافة بأمور أخرى غير الأسباب الحقيقية لانخفاض شعبيته.

المؤتمر الصحفي لرئيس الوزراء صباح أول من أمس تحول الى استجواب الصحافة عن «الوعود التي قدمها للنواب التسعة والثمن الذي ستدفعه الخزانة»، وانفجرت مشادة بينه وبين المعلق السياسي للـ«ديلي ميل» الذي وصف اتهام براون للصحفيين بعدم اخذ تهديد الإرهابيين مأخذ الجد بانه «يدعو للاشمئزاز».

وهنا يبرز احد اهم عناصر الديموقراطية وهو حرية الصحافة وحرية التعبير، بلا رقيب او تدخل بتبريرات كالأمن القومي، او مراعاة الخصوصيات الثقافية الدينية او مشاعر رجال الدين. فالصحافة الحرة تصبح السلطة الرابعة التي تسلط الأضواء على عجز الحكومة وسلبياتها، واكثر المعلقون من ترديد قول بنجامين فرانكلين (1706 ـ 1790): «من يضحون بحريتهم مقابل الأمن المؤقت، لا يستحقون الأمن أو الحرية» في اسبوع توحدت فيها مواقف الصحافة من أقصى اليمين لأقصى اليسار ضد مشروع الحكومة. الدرس الأهم أن الديموقراطية مناخ ومؤسسات وممارسة وتقاليد عريقة، وليس مجرد انتخابات برلمانية، ومع ذلك فإن الذعر والهستيريا الجماعية غير العقلانية استجابة لأخطار وافدة او أزمات لم يختبرها المجتمع، غالبا ما استغلها الساسة في بحثهم عن الصوت الغوغائي بقرارات لتقويض اهم دعائم الديموقراطية. اي يصبح «حاميها حراميها».