أهل السنة والجماعة: نظرة في التحولات

TT

جاءت دعوةُ الملك عبد الله بن عبد العزيز لحوار أتباع الأديانات الأخرى في الوقت المناسب. فقد عززتْ توجُّهاً للتصدّي في الوقت نفسِه للعدوانيات التي شُنّت على الإسلام باسم «صراع الحضارات»، وإرهاب القاعديين والجهاديين، والتصدّي لتيارات التشدُّد والغُلوّ داخل المجتمع الإسلامي. وقد بدا هذان الأمران في خطاب الملك الافتتاحي بمؤتمر الحوار الإسلامي العالمي بمكة بين 4 و6 يونيو الحالي؛ حين دعا لنبذ التشدُّد الناجم عن الجهل وضيق الأفق، وللانفتاح على عوالم الأديان والثقافات التي نعيشُ ونتعاملُ معها في العالم الأوسع.

الواقع أنّ التشدُّد والغُلُوّ وجهٌ واحدٌ من وجوه الأزمة التي يُعاني منها مسلمو أهل السنة والجماعة منذ عقود. وقد أدَّى هذا التأزُّم أَوساط أهل السنة إلى تصدُّعات في المجال العَقَدي ضمن الأشعرية، وتصدُّعات أُخرى ضمن المذاهب الفقهية المعروفة (الحنفية والشافعية والمالكية والحنبلية). فقد عانت الأشعرية، وهي مذهب بعض أهل السنة من هجمات الإصلاحيين والعلمانيين والسلفيين، تحت عناوين مختلفة، كان أبرزها لدى السلفيين عدم الالتزام بظواهر النصوص، والقول بعلم الكلام، والانفتاح على الصوفية، والفصل بين الإيمان والعمل، والتسليم بالأعراف والتقاليد المخالِفة لسيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) والسَلَف الصالح. وأراد الإصلاحيون والتحديثيون تبني نوع من الاعتزال الجديد في الحد الأدنى، أو عقلانيات فلاسفة الإسلام في الحد الأعلى؛ باعتبار ذلك مُطِلاًّ بالمسلمين على الحداثة والعصرانية.

وفي حين دفع ذلك المتدينين الشبان في حقبة الإحياء والأُصولية باتّجاه السلفية القاطعة، انصرف سائر المثقفين العصريين، متديِّنين وغير متديّنين، عن الأشعرية باعتبار عدم تلاؤمها مع الظروف الحاضرة. وهكذا تتضاءلُ الأشعرية وتختفي بدون تفكيرٍ كثيرٍ في الإصلاح والتجديد أو البدائل. وتسودُ في الأجواء تشرذماتٌ ناجمة عن التجويف المزدوج للأشعرية، وعدم قدرة السلفية الجديدة على الاستيعاب والجمع، سواءٌ كانت سلفيةً علمية أو سلفيةً ثوريةً جهادية. والحقُّ أنّ الأشعريةَ ما وجدت في المائة عامٍ الأخيرة من ينصرفُ للتفكير فيها ومراجعتها، ودراسة إمكانيات تجديدها أو إصلاحها، بحيث ما أمكن لها بحالتها الكلاسيكية المتأخّرة أن تُرضي قطعيات المتشدّدين، ولا ليبراليات التحديثيين.

لقد تفككت سيطرة المذاهب الفقهية المعروفة، رغم أنها لم تسقط سقوط الأشعرية. وجاء تفكُّكُها تحت وطأة دعوات الاجتهاد، ومن جانب السلفيين الإصلاحيين أيضاً. وفي خضمّ الإحيائيات الصاعدة السلفية والأُصوليّة جرى استيعابُ الكثير من موروثات المذاهب المعروفة، لكنّ الانتماءات المذهبية تضاءلت معرفةً ودَوراً. فالتقليد صار سبّة، وصورةُ الإسلام (وصورة العالم فيه)، تغيرت تحت وطأة وضغوط ومشكلات الحداثة، التي لم يَعُدْ مفيداً مواجهتها باختلافات الفقهاء وقواعدهم وأصولهم في التقليد أو في الاجتهاد. وقد احتدّ عليّ أحد الفقهاء أخيراً في أحد المؤتمرات عندما تحدثتُ عن مصائر المذاهب الفقهية، ظناً منه أنني ضدَّها، وذَكر دليلاً على عدم الانهيار أنّ كتابه ذي الثماني مجلَّدات في الفقه الإسلامي وأدلّته طُبع في تركيا بعشرات أُلوف النُسَخ!

إنّ المشكلةَ مع السلفية «الجديدة» أنها ما تزالُ تُحاولُ حلَّ سائر القضايا الحديثة والطارئة بمناهج قديمة وتأصيلية، الذي ما عاد مفيداً لا في مجال العلائق بين فئات المسلمين، ولا في العلاقة بالثقافات والديانات الأُخرى. لكنّ السلفية غير القادرة على استيعاب المستجدات في الرؤية والنظرية وبعض وجوه السلوك والتصرف، ما شكّلتْ انقساماً داخل أهل السنة حتّى في صيغتها الثورية ذات الطابع المأزقي مع الداخل والخارج.

الانقسامُ الحاصُل في الإسلام السني، صنعتْهُ الأصوليات (من الجماعة الإسلامية إلى الإخوان المسلمين)، التي غيَّرت المفاهيم، وليس في القسم الأول من الوصف: «السنة» الذي استأثرتْ به السلفية؛ بل في القسم الثاني «الجماعة». فالسنة تتناولُ الجانب الديني التعبدي والرمزي والشعائري وبعض التشريعي، أمّا «الجماعة» فتتناولُ الأبعاد الاجتماعية والتاريخية والسياسية لإسلام الأكثرية. وقد كان الإمام أبو حنيفة يفضّل تعبير أو مصطلح: السواد الأعظَم، وهو يعني أنّ مسائل الشأن العامّ (سياسة الدنيا بتعبير الماوردي) تتولاها الجماعة من طريق مَنْ تُوكِلُ إليه الأمر بالشورى. فالشأن العامُّ أو السياسيُّ أو الدنيوي شأنٌ جماعيٌّ وشورويٌّ وإجماعيٌّ وإنسانيٌّ وتقرّره الإدراكات الإنسانية والمصالح. وقد فهم الإمام أحمد بن حنبل من (الجماعة) أنها تعني الاجتماع على الإمام، منعاً للثوران والفتنة وضياع مشروع الأمة. وما كان الأئمةُ الآخرون خائفين من الفتنة بقدر ما كانوا خائفين من «التغلُّب« الذي يدفعُ للثوران، ولذلك اشترعوا للمعارضة السلمية ضمن الجماعة والسواد الأعظم.

ولكي لا يطولَ الاستطراد، أقول إنّ أهل «الحاكمية»، نقلوا المرجعية في الشأن الدنيوي العامّ من الأمة والجماعة والسواد الأعظَم إلى حُكْم الله والشريعة. وبذلك قالوا بكيانٍ دينيٍ شبه بحت، لا يخفّفُ منه القول إن القائم على تطبيق الشريعة غير معصوم، لأن الشريعة تَهبُ القائمة على إنفاذها سلطاتٍ غير محدودة. إنما الأهمُّ من ذلك اختلالُ العلاقة بين السنة والجماعة، بالمفهومين الجديدين، وبين الشريعة والسياسة، وبين الدين والدولة. وهذه أمورٌ ما عرفها الإسلام الكلاسيكي، وما صنعتْها طبعاً الأصوليات منفردة؛ بل كان من أسبابها تخلْخُل التجربة السياسية العربية، والهجمة الإمبريالية على ديار المسلمين وجماعتهم. وقد قال لي المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين عندما نشر في الثمانينات من القرن الماضي نظريته عن «ولاية الأمة على نفسِها»: لقد انتظرت أن ألقى معارضة شديدة من جانب علماء الشيعة، ففوجئتُ بالمعارضة الشديدة من جانب أهل السنة، الذين من المفروض أنهم يقولون إن الإمامة قائمة على الشورى والاختيار من الأمة والجماعة وأهل الحلّ والعقد! وقلتُ له: إنهم يتحدثون عن المرجعية العليا، والأخرى الإجرائية، ويقولون إنّ (الحاكم) بحسب أصول الفقه هو الله عزَّ وجلّ! وأجابني: هذا كما يقول اللبنانيون تغطية للسماوات بالأَبَوات، واستنباطٌ في غير محلّه. فالله سبحانه لدى علماء الأصول حاكمٌ في الأمر التشريعي، وأُصول المصالح مثل الضرورات الخمس التي قال الشاطبي إنّ الشرائع أُنزلت من أجل صَونها.

هذه مُرشداتٌ للإنسان والفقيه، أمّا الشأنُ العامُّ ذاتُهُ فهو بيد الأمة، ألا تذكر ما قاله الإمام علي لأهل حَروراء حين حكَّموا (أي قالوا: لا حُكْم إلاّ لله!) ؛ قال لهم: كلمةُ حقٍ أُريد بها باطل، الحكم لله، وفي الأرض حُكّام. لا بد للناس من أميرٍ يجمعُ الفيءَ، ويجاهد العدوَّ، وتأمن به السُبُل، ويأخذ للضعيف من القوي، حتى يستريح بُرٌّ ويُستراح من فاجر؟! ألا ترى أنه لم يذكر للأمير مهماتٍ دينية؟

على أيّ حال، نحن في حاجةٍ شديدةٍ للحوار الكبير والمفتح، وفيما بيننا، وفي عقائدنا ورؤانا للدين وللمجتمع وللدولة. وهذه الأمور لا تفرضُها ضرورات الحوار مع الآخَر وحسْب، بل وتفرضُها الانشقاقات والتشرذمات ذات الطابع الديني والسياسي، والتي تكاثرت وتفاقمت، بسبب الانسدادات السياسية والعالمية. ولله الأمر من قبل ومن بعد.