«مشْ هيني تكون لبناني»!

TT

تعرض المؤسسة اللبنانية للإرسال «إل بي سي» ـ وبشكل متكرر ـ منذ توقيع «اتفاق الدوحة»، الذي كان يفترض ان يبعث الأمل وتباشير الخلاص، فيلماً إعلانياً مهدى «لكل لبنانية ولكل لبناني». هذا الفيلم يحمل رسالة لا تشبه في شيء، تلك التي بثها الفنان الكبير زكي ناصيف بعد الحرب الأهلية المدمرة، واعداً العالم أجمع:

راجع راجع يتعمر.. راجع لبنان

راجع متحلي وأخضر.. أكثر ما كان

الفيلم الجديد يأتي بعد إجهاض إضافي لفكرة لبنان الوطن، ويعترف بشيء خطير ومؤرق، وهو أن الدوامة مستمرة ولن تنتهي، وليس للبناني سوى سواعده، وصبره الذي يجب أن لا ينفد.

فالوجوه اللبنانية التي تطل عليك من الشريط جميلة، أنيقة، لكنها متوترة وقلقة، وهي تنصت بأرق لذلك الصوت الأجش الذي يقول لها على خلفية موسيقية هادئة: «المصير اختارك.. التاريخ بيتحداك. بتزرع ما بتحصد، كلن مرتاحين ما عداك. بتضحّي ما بتلاقي، بتنزف ما بيجف الدم. بتموت، بترجع بتموت من جديد بذات الهم... هيدا قَدَرْ اللبناني، ومشْ هيني تكون لبناني». ولا يقول الشريط بعبارات صريحة أن على المواطن أن يكون سوبرماناًً كي يواصل الحياة في هكذا بلد، لكنه يزودك بكل الصور التي تؤكد على ضرورة هذه السوبرمانية مع عبارة: «بَدّا مجهود مش بسّ إنساني، بَدّا قدرة وقوة مش متوفرة بحدا ثاني». وبعد مشاهد الدمار والخراب والحرائق التي تبشر بأن هكذا مواطنية فريدة تحتاج منك أن «تفوت بالحيط» وايضاً بالزجاج، يستنكر الصوت على اللبناني الذي تعب وضحى وضاع جهده، أن يستهجن ويسأل: «شو إجاني». لأن الجواب بكل بساطه: «هيدا بلدك، هيدا قدرك، لأنك لبناني». هكذا يقرر مبتكر الإعلان رمزي نجار، وهو فنان رؤيوي ومثقف، أن التاريخ سيعيد نفسه، ولن يتغير أي شيء، وما على اللبناني سوى أن يبني بعزمه وإرادته «كي يستحي الدمار» ولن يتوقف على ما يبدو. والمواطنون في الفيلم، الذين تتساءل قسماتهم بحيرة عن مغزى هذا القدر العجيب، يضطرون للابتسام فقط حين يقول لهم الصوت ان السبب قد يكون ان «لبنان رباني.. ومش هيني الواحد يكون عن جدارة لبناني». أمر ما يذكر بوديع الصافي الذي اعتبر لبنان «قطعة سما»، وتغنى بأنه بلد «مهما يتدمر بيرجع يتعمر». لكن نجار يضيف نقطة اساسية وهي إقالة أو إعفاء المسؤولين من مسؤولياتهم، لأن المواطن وحده في هكذا بلد هو «السائل والمسؤول»، بعد ان تأكد للجميع ان الزعماء يمارسون «سياسة العبث ومنطق المش معقول».

كنا لنقول إن شريط رمزي نجار، مجرد إعلان فني جميل ومؤثر، لو لم يكن هذا الخطاب الاستسلامي النزعة، بات جزءاً من الذهنية العامة. فبعد 24 ساعة من اتفاق الدوحة، خرجت عضو بلدية بيروت، رولا العجوز، مبتهجة، تدعو السياح للتوافد على لبنان. وعندما سألها مقدم البرنامج مارسيل غانم: هل يعقل انكم تدعون العرب في كل مرة، ثم يهربون بسبب القصف. فتجيب السيدة بكل ثقة: «ما هيدا لبنان!». إجابة سوريالية على سؤال عاقل. والأنكى أن الإجابات كلها باتت هستيرية، ولعل الرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميل كان أعقلهم حين اعترف، انه مرهق نفسياً وبحاجة لفترة من الهدوء. لم يقل السياسي المحنك أن اهل البلد جنوا جماعياً، إنما ألمح ونصح الجميع بفترة من التأمل. لكن رمزي نجار يميل لرأي فيروز التي تخاطب لبنان: «كيف ما كنت بحبك.. بجنونك بحبك» دون أن يفلح أي طبيب في وضع وصفة لتخفيض نسبة هذا الجنون. وربما أن الغالبية تميل لهذا الرأي الفيروزي، بما في ذلك السياسيون الأوروبيون الذين يتوافدون يومياً على لبنان، مباركين عظمته، مبشرين بإعادة الإعمار، من دون ان يفهم أي أحد منا، على أي أساس، يعاد هذا الإعمار للمرة الألف.

فبعد «العملية الموضعية النظيفة» التي قام بها حزب الله لتطهير بيروت، وحصول الاتفاق المشهود في الدوحة، مايزال زعماء الطوائف «يتناتشون» الحقائب الوزارية حتى لا يكاد يتبقى منها غير الفتات، ويتحدثون بصلافة لا سابق لها عن «هذه حصتي» و«تلك حصتك». يتقاسمون الجبنة على مرأى من المواطنين، المنتظرين انتهاء وليمة توزيع الغنائم بسلام، ليتأكدوا ان الهدنة ستطول هذه المرة.

الفكرة الطوباوية التي يتجرعها المواطنون في فيلم نجار والمقولات المشابهة السائدة الأخرى، حول التسليم بطاقم سياسي «مسؤول بالاسم وليس بالفعل»، فيما على المواطن أن يكد بمعزل عن التهديدات، هو منطق تدميري منذ الاستقلال إلى اليوم. ونتيجة لنحر فكرة «المحاسبة بعد الانتخاب» فإن الطاقم الحالي، بدأ يجهز أطفاله لتولي المناصب من بعده. وأثناء المناوشات لتشكيل الحكومة الجديدة تم تداول أسماء أربعة من أولاد الصف السياسي الأول، الموجودين حالياً، فيما يتم تجهيز آخرين من الجيل الجديد لوراثة «الشعب العنيد». أي أنه ـ وبعد سنوات قليلة جداً ـ لن يتمكن نجار من طرح فكرة السوبرمان اللبناني، الذي يلبس الأبيض الهفهاف ويفتح ذراعيه رافعاً رأسه إلى السماء، فيما يداعبه الهواء العذب على شاطئ البحر، يكاد يطير به إلى السموات السبع، ويناديه الصوت الآتي من بعيد: «تذكر دايماً، مش هيني الواحد يكون لبناني!»، وإنما سيضطر نجار لأن يصور لنا فيلماً جديداً يسأل من خلاله: ماذا تبقى من الإنسان اللبناني؟

[email protected]