الصبر ـ المناهج ـ التعليم

TT

الصبر فضيلة، هكذا تعلمنا من الدين والتراث ومن تجارب الإنسانية المتراكمة.

المشكلة أن مفهوم الصبر يتداخل مع مفاهيم عديدة، فالصبر يعني الانتظار والصبر في آن، و«الصبر مفتاح الفرج» لكنه قد يكون مرا. لعل نبات الصبار المر الذي يشتق منه الصبِر (بكسر) الباء للتداوي مشتق من كلمة الصبر أيضا. والصبر يتداخل مع السرمدية، فالاستسلام لبقاء الحال على ما هو عليه، لكن «للصبر حدود»، مثلما غنت أم كلثوم.

ويتداخل الصبر مع مفهوم البطء والتروي، فقيل: «من تأنى وصبر، نال وظفر»، لكن هذا النوع من التأني يقود إلى الاتكالية والكسل والجمود. والانتظار يختلف عن الصبر، فالواحد ينتظر حتى يحين موعده مع طبيب الأسنان، مثلا. لكن الصبر يعني انتظارا مفتوحا من دون معرفة ساعة الفرج.

وأنا أكتب هذا المقال، مرت 24 ساعة على كارثة احتراق الطائرة السودانية من دون معرفة من مات ومن نجا! ماشي: «الصبر طيب». وهذا صحيح، لكن قل هذا لأقرباء الركاب المفقودين. ترى! كم من «الصبر» يلزم أهالي الضحايا لمعرفة مصير أقربائهم لو أنها (الطائرة) تحطمت في البحر أو في أدغال أفريقيا؟؟ ولد الانتظارُ انفجارا آخرَ بعد احتراق الطائرة بيوم نتج عنه قتلى وجرحى!! تتابع المأساة، تتذكر المناهج التعليمية! هل من رابط؟ عقود مرت بانتظار تغيير جذري في مناهج التعليم. دول الخليج تنادت لهذا التغيير: السعودية لم تتجاوز الحديث عن الموضوع وإطلاق بالونات اختبار هنا وهناك، والكويت تراجعت فيها كل الدعوات، بل ازدادت رجعية مع سيطرة قوى الدين السياسي على مفاصل اتخاذ القرار التعليمي فيها، لعل دولة الإمارات العربية المتحدة وقطر وعمان سارت خطوات «بطيئة» واعدة، الوضع البحريني ليس عن وضع شقيقه الكويتي ببعيد. دليل ضرورة تحديث المناهج أن ينظر الواحد إلى الحالة الإنتاجية والذهنية في عالمنا العربي بشكل عام، والخليجي خصوصا. فلسفة التعليم لا تزال تعتمد على الحفظ والتلقين والانتظار باسم الصبر، وليس في أسلوب وفلسفة تعليمنا ومناهجنا التعليمية ما يحث على النقد والتفكير والتحليل كمنهج حياة بعد التخرج، فيجد الواحد نفسه بعد سنين طويلة من الدراسة يحمل ورقة تسمى شهادة أكاديمية، بدلا من أن يحمل رسالة فكر منهجية تحفز على الإبداع والجدل والتفكير والنقد والتحليل. يجد الواحد نفسه بصاما لكتب ومعلومات لقنته إياها المدارس، ومواد وقراءات لا فائدة منها، فلا هي تعينه على الولوج بتحدٍ ومثابرة إلى سوق العمل، ولا هي خلقت منه إنسانا نقديا تحليليا ينظر إلى الأشياء بعين من يسائلها، ويرفض المسلمات التي حجرت على فكره منذ نعومة أظفاره.

مناهج التعليم بفلسفة تخلق إنسانا يتفاعل مع العالم خلقت الإنسان الماليزي مع بداية الثمانينات، وثابرت القيادة الماليزية، وصبرت حتى قطفت ثمار مناهج تعليمية تحث على التفكر والنقد، بدلا من الحفظ والبصم. فكان الإنسان الماليزي المسلم ـ الأممي الذي يتقبل ويتعامل مع كل الثقافات والعلوم والقوميات والأديان بثقة المقدام القادر على التفاعل والإضافة، بدلا من التوجس والبلادة، التي خلفتها مناهجنا التعليمية في عالمنا العربي.

ما زالت المناهج التعليمية تستحوذ على حصة الأسد في نقاشات برلمانات الدول المتطورة، وخصوصا الدول الاسكندنافية. لجان تتشكل وتخطط وتقرر لتخلق مناهج تعليمية ومؤسسات تربوية تعتمد فلسفة التعليم من خلال المتعة والترفيه. تخيل أن الطفل يسابق والديه في الذهاب للمدرسة، لأن الدراسة أصبحت متعة تنتهي بانتهاء اليوم الدراسي، فلم يعد هناك في النظم الحديثة شيء اسمه «واجبات مدرسية»!!

كنت أشاهد بعضا من خبراء «تربويين» عرب حضروا مؤتمرا إقليميا، تذكرت حوارا في النرويج حول مناهج رياض الأطفال. تأوهت! قارنت! صبرت! فلم أظفر، لكني طفرت!