العراق: من الاحتلال القسري إلى الاحتلال الطوعي

TT

تبذل الإدارة الأميركية جهدا مكثفا، من أجل الوصول إلى نهايات سعيدة لسياسات محزنة، نفذتها في السنوات السبع الماضية، بخاصة في المنطقة العربية، ومن أجل أن يكون ذلك تتويجا إيجابيا لصورة الرئيس جورج بوش وهو يقترب من نهاية رئاسته الثانية، وبحيث يقال عنه تاريخيا أن كان رجلا ناجحا في سياسته، ولم يكن مجرد رجل مغامرات عسكرية فاشلة فحسب.

يجري بذل هذه الجهود بدأب في المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، وفي محاولات التأثير على مسار الحل السياسي في لبنان، وفي السماح بدور تركي في رعاية مفاوضات سورية ـ إسرائيلية غير مباشرة، وفي حشد القوى العالمية ضد إيران لمنعها من تخصيب اليورانيوم إلى إمكانية امتلاك سلاح نووي، وفي عقد مؤتمرات دولية لتوفير أموال من أجل دفع قضية التنمية في أفغانستان، حيث الفشل العسكري هناك يصم الآذان.

أما النقطة المركزية في هذه الجهود فهي العراق. الفشل العسكري الأميركي في العراق واضح وصريح. ولا يقل الفشل السياسي فداحة عن الفشل العسكري. وهناك مواعيد وضعها مجلس الأمن قاربت على النفاد. وهذا كله يستدعي عملا دؤوبا لإنجاز شيء ما. شيء يؤكد نجاح السياسة الأميركية واستمرار سيطرتها، بدلا من حديث الهزيمة الذي يتردد حتى في واشنطن. ويتركز الجهد الأساسي هنا في إنجاز معاهدة بين العراق وأميركا، تنظم علاقة جديدة ومديدة بين الطرفين، تنهي عهد الاحتلال القسري وتبشر بعهد الاحتلال الطوعي.

قصة هذه المعاهدة المنشودة بدأت قبل عام، حين بذلت واشنطن مع حلفائها في السلطة جهودا لإصدار بيان يتضمن أشياء كثيرة، ولكنه يتضمن أيضا مديحا للدور الأميركي في العراق، ودعوة لاستمرار هذا الدور في المستقبل بصورة متفق عليها. صدر هذا الموقف في 26/8/2007، ورد عليه الرئيس بوش فورا بإعلان ارتياحه له. ولم يكن هذا البيان سوى مقدمة لعمل آخر أكثر أهمية، إذ بعد ثلاثة أشهر فقط، وبالتحديد في 17/11/2007، جرى اتصال هاتفي بين بوش ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، وعبر دائرة تلفزيونية مغلقة، وتمخض هذا الاتصال عن «اتفاق مبادئ»، يمهد لصياغة نوع من المعاهدة بين الطرفين، تضمن استمرار وجود جيش الاحتلال الأميركي في العراق لسنوات طويلة قادمة، وينظم أيضا علاقات تشمل الاقتصاد والنفط والتجارة والثقافة، وكل ما من شأنه أن يؤكد النفوذ الأميركي في العراق.

حمل هذا الاتفاق العنوان التالي (إعلان مبادئ علاقة تعاون وصداقة طويلة الأمد بين جمهورية العراق والولايات المتحدة الأميركية). وجاء في السطر الأول منها إشارة إلى بيان القادة العراقيين الذي أشرنا إليه كما يلي: «أكد القادة العراقيون في بيانهم الصادر في 26 أغسطس (آب) عام 2007 الذي أيده الرئيس بوش، أن الحكومتين العراقية والأميركية ملتزمتان بتطوير علاقة تعاون وصداقة طويلة الأمد...). وجاء في بند الاتفاق الاقتصادي ما يلي: «تسهيل وتشجيع تدفق الاستثمارات الأجنبية، وخاصة الأميركية، إلى العراق للمساهمة في عملية البناء وإعادة الإعمار...». وجاء في بند الاتفاق الأمني ما يلي: «تقديم تأكيدات والتزامات أمنية للحكومة العراقية بردع أي عدوان خارجي... ومساعدتها بمكافحة جميع المجموعات الإرهابية...».

وكان أبرز ما ود في الاتفاق القول:

1) إن الحكومة العراقية ستطلب من مجلس الأمن «تمديد ولاية القوات المتعددة الجنسيات للمرة الأخيرة). وقد تم ذلك فعلا في عام 2007 وحتى نهاية عام 2008.

2) مع انتهاء فترة التمديد الأخيرة، يعتبر مجلس الأمن أن العراق لم يعد يشكل تهديدا للسلام والأمن الدوليين (مضمون قرار مجلس الأمن عام 1990). ويؤدي ذلك إلى إخراج العراق من إطار الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، بما يعيده إلى وضعه الدولي الطبيعي الذي كان عليه قبل احتلال الكويت. (ويعني هذا أنه لم يعد هناك مبرر قانوني لبقاء قوات الاحتلال في العراق، وتبرز الحاجة إلى إيجاد سند قانوني جديد لمواصلة بقاء القوات الأميركية في العراق).

3) تبدأ، وبأسرع وقت ممكن، مفاوضات ثنائية بين الحكومة الأميركية والعراقية (بدأت منذ مطلع عام 2008)، للتوصل قبل 31/7/2008 إلى اتفاقية بين الحكومتين.

وفور الإعلان عن هذا الاتفاق، بدأ نوري المالكي الترويج للاتفاق، بالتركيز على أنه سيمهد لإخراج العراق من سيطرة الفصل السابع، الذي يتيح محاصرته واستعمال القوة ضده، مع تجاهل الحديث عن استمرار تواجد قوات الاحتلال الأميركي داخل العراق ولمدة غير محددة.

وهنا.. تم الانتقال من مرحلة «اتفاق المبادئ»، إلى مرحلة التفاوض حول «المعاهدة الأمنية» بين العراق وأميركا. وقامت في العراق ضجة كبيرة حول هذه المعاهدة، وأعلنت أغلب القوى السياسية معارضتها للمعاهدة من حيث المبدأ. ولكن حكومة المالكي لم تهتم بهذه المعارضة (رغم أنها أدت إلى انشقاق حزبه بقيادة الجعفري) وواصلت التفاوض حولها. وفي 11/6/2008 أعلن ديفيد ساتيرفيلد المستشار الأول لوزيرة الخارجية الأميركية، في مؤتمر صحافي عقده في بغداد «أجرينا أمس جولة جديدة من المفاوضات مع الجانب العراقي، وبدورنا ركزنا على البعد الأمني كونه الأكثر أهمية». وأشار ساتير فيلد إلى أن المفاوضات «تجري بين فريق أميركي يقوده السفير الأميركي في العراق رايان كروكر، والفريق العراقي بقيادة نائب رئيس الوزراء برهم صالح». وأوضح ساتيرفيلد أن بلاده تريد معاهدة مع العراق على غرار معاهداتها السابقة مع ألمانيا واليابان وكوريا.

وأثار موضوع المعاهدة الجديدة انتقادات دولية أيضا، ففي 8/6/2008 ركزت أكثر من صحيفة بريطانية على الموضوع، مبرزة أن الإدارة الأميركية تعمل على «ابتزاز» العراق لإجباره على توقيع معاهدة أمنية استراتيجية تضمن وجودا أميركيا دائما في العراق. وبرز في موضوع «الابتزاز» هذا أمر جديد يتعلق بأموال عراقية مودعة في أميركا منذ العام 1990 يبلغ مقدارها 50 مليار دولار. وهذا المبلغ تحتجزه الإدارة الأميركية حسب صحيفة «الاندبندنت» البريطانية في بنكها المركزي، وتستخدمه للضغط على الحكومة العراقية وإرغامها على التوقيع على معاهدة الأمن الاستراتيجي. وقالت الصحيفة إن الاحتياطات المالية العراقية في الخارج محمية بأمر رئاسي يعطيها حصانة من الملاحقة القضائية.

إن نجاح الولايات المتحدة في فرض المعاهدة الأمنية الجديدة على العراق، سيمدد احتلالها إلى سنوات طويلة قادمة، وسيعطي لهذا الاحتلال غطاء شرعيا. ولكن الأهم من ذلك كله، أنه سيجعل من الولايات المتحدة الأميركية القوة الأكبر المسيطرة إقليميا على العراق، والساعية للسيطرة الإقليمية على جواره. وستنتج عن محاولات هذه السيطرة الإقليمية لأميركا، أن تكون فاعلة، إذا نجحت، في تقرير سياسة النفط العالمية، وهذا كله ما يسميه البيت الأبيض نجاح سياسة الرئيس بوش.

وبسبب هذا الوضع، يدور صراع سياسي ضار، بعضه معلن وبعضه خفي، على السيطرة الإقليمية في المنطقة ووزن كل طرف فيها، إذ بينما تسعى الولايات المتحدة إلى احتكار هذه السيطرة، تسعى كل دولة من دول الجوار، إلى أن يكون لها دور في نظام إقليمي جديد. وهنا يبرز الدور الإيراني الخطر، والذي عبر عنه بوضوح منوشهر متقي وزير خارجية ايران، أثناء استقباله لرئيس الوزراء العراقي (8/6/2008)، إذ أبلغه بوضوح ما يفيد بأنه لا يعارض عقد المعاهدة الأميركية ـ العراقية من حيث المبدأ، بل إن ايران ستعارضها «إذا لم تحصل على ضمانات تتيح لها المشاركة في نظام إقليمي».

إن الولايات المتحدة الأميركية كدولة محتلة، تسعى إلى السيطرة على النظام الإقليمي، وإيران بدورها تسعى وتساوم وتستغل نفوذها الطائفي داخل العراق، من أجل أن يكون لها دور في النظام الإقليمي الجديد. ولكن هذا يطرح سؤالا حول الدور العربي في هذا النظام، هل هو دور موجود أم لا؟ هل هو موجود أم هو غائب؟ هل هو مقاتل لفرض نفسه أم أنه يكتفي بالمراقبة والنقد، تارة للسياسة الأميركية وتارة للسياسة الايرانية؟ هذا السؤال يحتاج إلى جواب ينتظره كل مواطن عربي.