تأملات في محنة «البيارتة» بعد رفيق الحريري

TT

بينما استحوذت دبي على المؤتمرات غير السياسية والمعارض على أنواعها وتجني من وراء هذا الاستحواذ حضوراً على المستوى الدولي في عالم المال والأعمال والاستثمارات العقارية وتجارة اللوحات الفنية، فإن الدوحة تستحوذ على المؤتمرات ذات الطابع السياسي والاقتصادي الذي يصب في بحر السياسة أو يأتي من ينابيع أهل القرار السياسي الدولي. وأحدث المؤتمرات المستضافة في الدوحة بعد مؤتمر معالجة الأزمة اللبنانية هو «المؤتمر الدولي لمكافحة الفساد في قارة آسيا».

الإمارتان دون غيرهما من دول الخليج تشكّلان، الى جانب مملكة البحرين التي سبقت الاثنتين في ترسيخ دورها كأرض صالحة للأعمال المصرفية وشركات الإعلانات، نموذجاً للدولة الصغيرة التي يمكن ان تجعل دول العالم تهتم بها وتحرص على خصوصيتها وتحميها من مخاطر الطامعين بها.

وهذا الدور الذي تقوم به الإمارتان الخليجيتان دبي وقطر بالذات هو تماماً الدور الذي كان الرئيس رفيق الحريري يريده للبنان وسعى كثيراً من أجله، بل انه وضع اللبنات الأساسية له. وهو عندما كان يحرص على البقاء رئيساً للحكومة فمن اجل ان يستكمل مشروعه الإعماري الضخم. كما انه عندما كان يختزن في صدره مرارة ألاعيب البعض ونَزَق البعض الآخر وإهانات بعض رموز الأمن السوري له خلال سنوات عهد الوصاية السورية، فليس لأنه رجل لا تعنيه كرامته ولا هو متساهل في كبريائه، وإنما من أجل ألا يتسبب عدم التحمل وطبيعة رد الفعل في انتكاسة للمشروع الإعماري إياه. وعندما أقول ذلك أستحضر توضيحات سمعتُها منه وبالذات في زمن وصلت فيه المكايدة الى درجة عدم التحمل، وكنت من بين الذين قالوا له إن جحيم الاستقالة من رئاسة الحكومة تبقى أفضل من نعيم الترؤس في ظل المكايدات والإهانات العنجرية (نسبة الى بلدة عنجر حيث مقر الإشراف السوري الأمني والسياسي والاستثماري على لبنان وبقيادة غازي كنعان ثم رستم غزالي). وكثيرا ما كان يُقسم بالله العظيم وبرحمة الابن حسام، الذي كسر فقدانه في حادث سيارة قلب والده الرئيس فما عاد يعنيه شيء في هذه الدنيا، إنه لولا الحرص على استكمال المشروع النهضوي لما كان بقي لحظة في الحكم. اما إيجابيات البقاء رئيساً للحكومة فهي انها تسهِّل عملية الإنجاز. وفي جلسة التوضيحات المشار اليها كان في غاية الارتياح لعملية اعادة بناء السراي الحكومي الذي سألني بعد زيارة برفقته لتفقُّد اعمال الترميم جاءت نتيجة إبداء رغبتي بكتابة مقالتي في «الشرق الأوسط» عن هذا المعْلَم التاريخي وفي خاطري عنوان «ايليزيه البيارته» للمقالة. ولقد استوقفني اختياره عبارة «لو دامت لغيرك لما آلت اليك» لوضعها محفورة بخط جميل فوق البوابة الداخلية للمبنى تأكيداً ضمنياً منه انه يدرك تمام الادراك ان البقاء في ترؤس الحكومة ليس الى ما لا نهاية وان هديته وهو الجنوبي ابن صيدا عاصمة الجنوب المحتل ثم الصامد فالمقاوم فالمتحرر، لبيروت التي فيها ومنها يبدأ الاستنهاض ويأخذ مداه الأرحب هو السراي في الدرجة الاولى وبكامل رونقها. ولقد استوعب اهل بيروت، او «البيارتة»، على نحو التسمية الشعبية، معنى الهدية وشعروا بعنفوان من دون ان يأخذوا كما الرئيس رفيق الحريري في الاعتبار أن هذا الابتهاج قابله إحساس لدى الآخرين وبالذات لدى الشيعة أن بيروت والحريري والطائفة السنية حالة متوحدة. ورغم ان البرلمان هو في عهدة الرئيس الشيعي وتحديداً رئيس «حركة أمل» نبيه بري، إلاّ ان الوضع في نظر ابناء الطائفة يختلف حيث انهم يرون ان الحريري اعتنى كل العناية بـ«بيروته» ولم يعتبر الضاحية الجنوبية جزءاً من هذه الـ«بيروت» فضلاً عن انه اختصر الجنوب بمدينته صيدا ولم ينظر بعيداً في اتجاه مناطق الكثافة الشيعية في بعلبك والهرمل ومئات البلدات المنتشرة حولهما وبينهما.

نظلم الرئيس الحريري اذا كنا نظن أنه لم يدرج كل ما عدا «بيروته» في برنامجه الإعماري، ذلك ان الرجل وعلى نحو ما نسمعه منه كان يدعو المولى عز وجل ان يطيل بعمره لأن المشروع الإعماري طويل ومتشعب وانه يبدأ من بيروت لينتهي في آخر نقطة حدودية مع سورية شمالاً وشرقاً وكذلك جنوباً حتى الناقورة وصولاً الى مزارع شبعا التي أجيز لنفسي تسجيل رأي عابر له فيها وفي منطقة «حلايب» بين مصر والسودان، قال ذات لقاء معه إنه كلام ليس للنشر كي لا تكثر التفسيرات في شأنه. وخلاصة هذا الرأي تحويل مزارع شبعا، وبموجب مشروع إعماري دولي ـ عربي ضخم يمتد على مدى نصف قرن، الى احياء سكنية وتجارية نموذجية تباع من الفلسطينيين المقتدرين ويتملك فيها الفلسطيني غير المقتدر من التعويضات التي سيحصل عليها في حال تم وضع التسوية النهائية للصراع العربي ـ الاسرائيلي موضع التنفيذ، وبذلك لا يعود هنالك مخيمات للاجئين الفلسطينيين لأنه لن يكون هنالك لاجئون وإنما لبنانيون من اصل فلسطيني يتمتعون بكل حقوق المواطَنة كما الأرمن الذين اندمجوا وصار لهم نواب في البرلمان، والأكراد الذين اندمجوا لكن لا نواب لهم، إنما شرط عدم ممارسة النشاطات الحزبية على انواعها. وعندما قلت للرئيس رحمة الله عليه ما معناه هل تقصد أن تكون هذه الأحياء هي البديل عن الأحياء الفلسطينية وبحيث تكون الأسماء على سبيل المثال «حي يافا» و«حي عكا» و«حي حيفا» و«حي صفد» و«حي الجليل» و... و..؟ أجاب ما معناه ان المجتمع الدولي ونحن منه في صدد الحل الواقعي الذي يحفظ كبرياء الناس. اما بالنسبة الى «حلايب» المنطقة الحدودية المتنازع عليها بين مصر والسودان فإن الرئيس المأسوف عليه قال لي ما معناه إن مثل هذه المشكلة قد تبقى عشرات السنين اذا كانت الأمور ستعالَج على قاعدة هذا يقول إنها حقه والآخر يقول الشيء نفسه، والحل الذي أراه هو جعل «حلايب» منطقة حرة للتجارة يتقاسم البلدان عوائدها وتصل أهميتها مع الوقت الى الأهمية التي وصلت اليها منطقة «جبل علي» في دبي، وسأبحث هذه الفكرة مع اخواننا السودانيين عندما أزورهم قريباً. ولم تتم الزيارة لأنه اغتيل.

هكذا كان يفكر الرجل ومن اجل ذلك رأى ان مشروعه الإعماري الشامل يتطلب استمراره على رأس السلطة التنفيذية بدليل انه عندما أقصوه عن السراي، بدأ المشروع يتعثر وبدأ «البيارته» يشعرون انه في محنة وان هنالك خطة تستهدف انتزاع الشأن منهم، وكان حدسهم في محله لمجرد أن تم اغتيال رفيق الحريري وهو رئيس وزراء سابق لقطع الطريق على استئناف ترؤسه. ومنذ ذلك اليوم وتلك الفجيعة و«البيارتة» في حالة شعور بالاستهداف وخوف من المجهول في حال اصاب مكروه الابن الوارث سعد الدين الحريري، لأن معنى ذلك ان تخلو الطائفة السُنية او تحديداً «بيارتة» بيروت من الزعامة التي تقرر وتقود، وذلك لأن رفيق الحريري اهتم بمشروعه اكثر من الاهتمام باستحداث من هم مؤهلون لتزعُّم الطائفة، بدليل ان في بيروت وفرة من النواب والسياسيين الحريريين السُنة، إلا انه ليس هنالك عدا سعد الحريري من يتزعم وبصيغة الابن الوارث. وأما زعامة الرئيس فؤاد السنيورة فإنها وديعة. وبلغة المال التي يتقنها الرجل فإن الوديعة تُرَد، فضلاً عن ان زعامته السياسية زعامة طارئة تنتهي بانتهاء ترؤسه، وعلى نحو ما حدث لمثيله في عالم الاقتصاد والمال الدكتور امين الحافظ، إلا اذا كان لكل قاعدة استثناء وان تجربة السنيورة في ادارة الازمة التي حظيت برضى من المجتمع الدولي مثَّلت حيثية مهمة في اعادة تكليفه... انما هذه المرة من دون ان تعني سرعة التكليف سرعة التأليف إلا اذا اراد الزعيم السياسي للشيعة نبيه بري استحضار زمن الود بينه وبين الرئيس رفيق الحريري، وبذلك ينتهي التحرش الشيعي بـ«البيارتة» وتتقاسم الطائفتان زعامة العاصمة، ولا يتحقق المُرام الشيعي في ان يكون للطائفة في غياب الزعيم التاريخي رفيق الحريري دورها في تزعُّم العاصمة ما دام هناك من يمنِّي النفس بالتزعم.