نقد الصحويين لابن لادن.. يرفع الغطاء عن مشروعية العنف

TT

الصحوة النقدية لزعيم تنظيم «القاعدة» من قبل بعض الدعاة المحسوبين على التيار الديني غير التقليدي في الخليج، هي خطوة مهمة على درب شائك، كون الأمر فيه من التعقيد ما يصعب شرحه. لكن صفوة القول إن النقد العلني لجماعات أو لأشخاص لهم رؤية خاصة من جماعات تختلف مع طروحاتها، تبقى من المحاذير، بغض النظر عن حجم الاختلاف. ولذا فان إظهار موقف علني ضد هذا الرأي أو هذه الجماعة يصب في النهاية إلى تجفيف منابع التعاطف الشعبي مع هذه الجماعة أو تلك.

غير أن من يتابع الإعلام الغربي، حين الحديث عن ظاهرة الإسلاموفوبيا ورؤيتهم لما يقع بين أيديهم من خطابات وطروحات لمسلمين، بينهم من هو متشدد ومن له رأي معتدل، لا سيما عندما يحين مرور إحدى ذكريات أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وما يطرحه بن لادن من ضرورة مواجهة الغرب ودعوته لكل شاب في التمسك بهذه القناعات ومحاربة من أسماهم بالكفار.. فلا شك ان مناخا، بهذه القتامة، سيصيبهم بحالة من الحيرة تدعوهم إلى طرح أسئلة مشروعة، وحارقة في آن، تبحث عن جواب.. وأي جواب؟!!

هل الإسلام يجيز قتل الأبرياء؟ سؤال لا يلبث أن يواجهنا كلما جمعنا لقاء بمن يقطن في الغرب أو الشرق. سؤال طفا على السطح لا سيما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وحين نواجههم مستفسرين عن هكذا تساؤل، لا يلبثون ان يقولوا لنا: وما تفسيركم لما يطرحه بن لادن والترابي والحوالي والعمر وغيرهم. ولعل أدبيات الحركات الراديكالية المؤدلجة دينيا وسلوكياتها على ارض الواقع كرست هكذا مفهوم، ما خلق حالة من الالتباس في فهم حقيقة الدين الإسلامي لدى الشعوب الغربية. فاختلطت الأوراق وباتت الصورة النمطية المشوهة هي الحاضرة في الذهن والتي رسختها وبدون أدنى شك بعض وسائل الإعلام الغربية. ولعل هذا ما يقودنا لتناول قضايا ومسائل تتعلق بعلاقتنا بالآخر «غير المسلم»، لأننا بذلك نؤسس لطبيعة العلاقة من منظور ديني ونحتكم على أساسها.

وعلى افتراض صحة هذا التوجه، نجد أن شريعتنا السمحة في مصادرها الأساسية فصلت في هكذا علاقة، وبات مكررا هذا الطرح (علاقة المسلم بغير المسلم، سواء كان معاهدا، ذميا.. الخ)، إنما القضية ليست في النص القرآني المقدس، لكن في تفسيرات البعض التي تتجاوز مفهوم النص لتحدد مفهومه حسب قناعاتهم وتوجهاتهم، وهنا تقع الكارثة الحقيقية.

إلا أنني ما زلت أرى أن ثمة فارقا بين النص الديني (القرآن) الذي يجب ان نتمسك به ونقدسه، وبين التفسير الديني الذي هو جهد بشري يحتمل الصواب أو الخطأ، وليس بالضرورة يعبر عن حقيقة المغزى للنص القرآني الكريم، فالتفسير يبقى اجتهادا إنسانيا وليس تنزيلا إلهيا. وهنا الفارق، فمن ينتمي إلى هذا المذهب أو تلك المدرسة أو هذا التيار، تجده يحاول قدر الاستطاعة توظيف النص الديني ليتواءم مع توجهاته ورؤيته ورغباته، وما يدلل على صحة ذلك، على سبيل المثال، أصحاب التيار التكفيري الذين أفتوا بفتاوى قتل الأبرياء ورجال الأمن.. الخ، ثم لم يلبثوا ان تراجعوا عنها، والمفارقة أنهم استندوا إلى آيات وأحاديث وظفت بشكل يتناغم ـ في كلتا الحالتين ـ مع الرسالة المراد إيصالها، فكانت ضمن السياق العام للفتوى حتى تعطى لها الشرعية، لا سيما ان المرجعية نصوص قرآنية، لكنها وظفت ـ كما ذكرنا ـ لأغراض لم تعد تنطلي على أحد. في حين ان الوسطية في الإسلام لا تقر تلك الطروحات العدائية مع الغرب، بل تنادي بمفاهيم التعايش والتسامح والحوار، وقد نادت بها الشريعة الإسلامية منذ ما يربو على ألف عام، والحضارة الغربية كمضامين تدعو الآن إلى ذات المفاهيم في عالم بات اقرب إلى الالتحام والتمازج.

علينا أن نعلم وأن نوقن أن الغرب الآن هو من يملك الأدوات والقدرات للسيطرة والسيادة، ومن يجحد ذلك فهو لا ينتمي إلى عالم الواقع، بل إلى عالم الأحلام والأماني والنوستالوجيا، وليس بالضرورة ان نرفض هذه الحضارة بالمطلق ولا أن نقبلها بالمطلق، بل علينا أن نستوعبها وأن نتفاعل معها من دون ان ننسلخ عن قيمنا وثوابتنا وهويتنا، واضعين في الاعتبار ان المصالح هي لغة اليوم، فلا عداوة دائمة ولا صداقة دائمة، وأحسب ان العلاقات الدولية اليوم تستند إلى هذا المنطق.

إن خطاب البعض، وهو متشدد في بنائه وأهدافه ورؤاه، أساء للإسلام ولمعاني الإسلام، وما أحداث العنف ولغة القتل ومشاهد دم الأبرياء من أطفال وشيوخ وأمهات إلا تكريس حقيقي لذهنية دموية وسلوك عنفي، مع ان الإسلام ينادي بالتسامح والتعايش بين الأمم والشعوب. وهنا تكمن إشكالية توظيف النص التي هي في اعتقادي السبب الرئيسي في تكريس الخلاف بين المسلمين، ولا أقول الاختلاف الذي في ذاته ظاهرة صحية تثري وتبني ولا تقتل وتهدم.

لذا فعندما يعلن دعاة الصحوة موقفهم من الخطاب المتطرف ومن يتترس به، سواء «القاعدة» أو غيرها من الجماعات الراديكالية، فإنه يساعدنا على فهم معتدل لإسلامنا ويرفع الغطاء عن مشروعية التطرف ويساهم معنا، أي الشعوب والحكومات، في تجسير الهوة مع الغرب، فضلا عن ترسيخ تفاهم عالمي بين أتباع الأديان، وخلق أرضية مشتركة للتعاون من اجل سلام عالمي يحقق احترام كل طرف للطرف الآخر.