تحياتي إلى السيدة إنجيلا

TT

يقول المثل ان من عاشر قوما اربعين يوما صار منهم. ولأنني مغتربة منذ زمن، كنت اذود عن هويتي بالانكار فأقول انني سوف اظل فوزية العربية مهما طال الزمن ومهما حاولت الغربة ان ترخي سدولها على طريقي. وشعرت بالامان في ظل قناعتي تلك ما دامت صلتي بالجذور مستمرة كغطاء فكري ونفسي فاعل.

ثم حدث ما جعلني اعيد النظر في معنى المثل. فقد وصلني من مجلس بلدية المنطقة التي اسكن خطاب يفيد بأن مستثمرا اشترى البيت الكائن خلف بيتي مباشرة، الذي لا تفصلني عنه سوى مساحة خضراء هي حديقة البيت المذكور، وان المستثمر قدم طلبا لهدم البيت واقامة خمسة بيوت مكانه من طراز الماني حديث، وان الفرصة متاحة لسكان المنطقة للتعبير عن آرائهم بعد الاطلاع على الرسم الهندسي للمشروع المنتظر. اعترف انني قرأت الرسالة واعتبرت ان البلدية أخطرتني ذرا للرماد في العيون، وانه لمن المؤكد ان المستثمر واحد من ذوي النفوذ وانه سيربح الملايين اذا استبدل بيتا واحدا بخمسة بيوت تباع بأسعار ضخمة. وشعرت بالأسف لحرماني المنتظر من الخصوصية والهدوء اللذين تمتعت بهما لخمسة وعشرين عاما هي مدة اقامتي في البيت.

وبعد عدة ايام التقيت بسيدة انجليزية تسكن بجواري. لم اكن رأيتها منذ زمن لأنها اعتكفت بعد أن اصيبت بمرض خبيث استلزم علاجا اشعاعيا تسبب في تساقط شعر المريض وباحساسه بالارهاق المستمر. التقتني السيدة انجيلا بابتسامة وهي تتوكأ على عصا بيد وبيدها الاخرى رسالة مكتوبة. بادرتني بالتحية، ثم سألتني هل وصلتك رسالة البلدية وهل كتبت ردا للاحتجاج؟ فقلت لا. فقالت هذه رسالتنا لهم اقرئيها. ثم دعتني لحضور اجتماع لسكان المنطقة في المساء نفسه لمناقشة الامر والاتفاق على عمل جماعي يوقف اطماع صاحب المشروع حرصا على المصلحة العامة. فالمشروع ينذر بكثافة سكانية اعلى مما ينبغي ويسطو على المساحة الخضراء التي تسكنها كائنات حية كثيرة وطيور وزهور واشجار عمرها مئات الاعوام. والى جانب ذلك كله فإن العنصر الجمالي للمنطقة كلها سوف يتأثر ويتراجع مستوى اسعار بيوتنا اذا هدم بيت طرازه منسجم مع بقية البيوت وبنيت مكانه بيوت من زجاج ومعدن تشذ تماما عن النسق الجمالي المريح للعين والروح. خجلت من سلبيتي ووعدت انجيلا التي تحارب المرض وتتوكأ على عصا لكي تدافع عن حقي وحقها بحضور الاجتماع . في المساء اجتمع اهل الحي، الشباب منهم ومن ودعوا الشباب، الاقوياء والضعفاء. بعد التشاور بدأنا خطة عمل أولها الرد على رسالة البلدية بثمانين رسالة رفض، لأن ثمانين هو الرقم الفاصل بين رفض المشروع او قبوله. اتفقنا أن يعرض كل بيت على واجهته لافتة تقول بالبنط العريض: تعلم ان تقول لا.. دافع عن منطقتك.

وبهدوء اطلعنا على سيرة المستثمر واسلوبه في السطو على المساحات الخضراء لتحقيق اكبر نسبة من الارباح الى جانب التحايل على القانون للتهرب من دفع ضريبة الممتلكات. وسأترك للقارئ ان يخمن اصل ذلك المستثمر وانتمائه. بعد الاجتماع ادركت انني اكتسبت من غربتي شيئا نافعا: ان في الاتحاد قوة وانه لا يضيع حق وراءه من يطالب. وان العمل المنظم افضل من الانسياق وراء العواطف والهتافات، وجلست الى الكمبيوتر وحررت رسالة تقول للبلدية: لا ثم لا ثم لا، وهذه هي الاسباب.