العالم الصغير

TT

هناك بعض الحوادث الحقيقية التي تكاد تقترب من مرحلة الخيال، وتلعب الصدفة غير المتوقعة في بلورتها وإخراجها إلى الوجود الحي المعيش. والحكاية وما فيها تبدأ من قسيس يشرف على كنيسة صغيرة موغلة بالقدم، وتقع في منطقة نائية.. وصادف أن اجتاحت المنطقة عواصف وأمطار شديدة، تضرر من جرائها حائط من حيطان الكنيسة وتساقط الدهان وأحدث فجوة قبيحة، ولم يدر كيف يعالج هذا الحدث الطارئ. وبعد ذلك بعدة أيام سمع عن مزاد سوف يقام في قرية قريبة لبيع بعض الأغراض والحاجيات القديمة، فذهب إلى هناك للفرجة لا أكثر ولا أقل، ولفت نظره غطاء مطرز بالقصب أكل الدهر عليه وشرب، ولم يزايد عليه أحد يذكر، عندها قرر أن يشتريه، ودفع فيه أبخس الأثمان. وقرر أن يعلقه على الجدار ليحجب به الفتحة المتهالكة التي أحدثتها الأمطار.

وفي أحد الأيام عندما كان يسير بجانب محطة الأتوبيسات لفت نظره امرأة ترتعد من شدة البرد القارس، فاقترب منها قائلا: إن الأتوبيس القادم لن يصل قبل نصف ساعة من الآن، فتعالي وادخلي في الكنيسة إلى أن يحضر، لأنك في وقوفك هذا سوف تتجمدين.

شكرته واندفعت معه إلى داخل الكنيسة، وبينما كانت تتدفأ وتسري الدماء في عروقها، حانت منها التفاتة إلى الحائط، فتسمرت عيناها وهي تنظر وتتأمل في ذلك الغطاء المعلق، ثم انتصبت فجأة وذهبت تتفحصه، ثم أخذت تصيح: إنه غطائي، إنه غطائي.

فاندهش القسيس من كلامها، غير أنها عاجلته وهي تشير إلى حروف منقوشة على طرفه وفيه اسمها، وقالت: لقد أوصى زوجي بصنع قماشه خصيصاً لي في (بروكسل)، حيث أننا من النمسا وكنت مع زوجي من معارضي الحكم النازي، وقد قررنا أن نهاجر، ونصحنا البعض أن يسافر كل منا على انفراد، وأركبني زوجي القطار المتجه إلى سويسرا على أن يلحق بي ومعه حاجياتنا.. ولكن مر على ذلك اليوم المشؤوم أكثر من ثلاثين عاماً ولم أشاهده بعدها أبداً، وسمعت أنه اعتقل ومات في السجن.. وتشردت أنا وأعمل الآن كخادمة عند العائلة (الفلانية) في القرية.

عندها عرض عليها القسيس أن تأخذ الغطاء، لكنها رفضت قائلة: إنه ليس له قيمة بدون حبيبي زوجي. وذهبت في حال سبيلها.

وفي يوم أحد تقاطر بعض الناس للصلاة في الكنيسة، كان من ضمنهم رجل ثري يسكن في مدينة بعيدة، غير أنه كان مسافراً في سيارته الفارهة وتوقف بالصدفة عند الكنيسة وقرر أداء الصلاة.. وقد لفت نظره ذلك الغطاء المعلق وسأل القسيس: كيف حصلت عليه؟!. قص عليه أنه اشتراه من أحد المزادات، غير أنه خاطبه: لماذا تسألني عنه ولماذا أثار انتباهك؟!، فقال: منذ أكثر من ثلاثة عقود كنت أنا وزوجتي رحمها الله نملك مثله، عندها انفعل القسيس وروى للرجل قصة المرأة، وكاد يغمى عليه من شدّة الفرحة.

وتوجه الاثنان إلى المنزل الذي تخدم فيه المرأة، وما أن شاهدت زوجها حتى سقطت مغشيا عليها، ولم تفق إلاّ بعد أن رشوها (بالنشادر).

وانتقلت لتعيش مع زوجها في منزله الفاخر، بعد أن كان يظن كل منهما أن رفيقه قد مات.

وقد صدق بيت الشعر القائل:

وقد يجمع الله الشتيتين بعدما

يظنان كل الظن ألا تلاقيا

هل عرفتم الآن: أن العالم أصغر مما نتصور؟!

[email protected]