الجمهور «مش عايز كده»!

TT

لفت الأستاذ أنيس منصور في مقال له في جريدة «الشرق الأوسط»، أنه كان يفبرك ردود القراء عندما أراد لمجلته غير المعروفة بعد أن يتفاعل معها الجمهور. وهذا اعتراف من صحافي كبير يفتح حوارا أعمق عن قصة الإعلام والجمهور. لماذا المادة الإعلامية المقدمة على الفضائيات والتلفزيونات العربية تتركز دائما حول القضايا الدولية والعالمية لا القضايا المحلية أو الفردية؟ عندما تتوجه بهذا السؤال إلى الإعلاميين العرب وتستفسر منهم عن معنى مبالغاتهم وحماسهم الزائد في توصيف الأمور وتضخيمها، وفي التركيز على الأمور «الكبرى» على حساب الحاجات الملحة في بلداننا، يأتيك ردهم التقليدي: «الجمهور عايز كده». لكن الحقيقة التي بدأت تتضح لدي بالخبرة المباشرة، هي أن الإعلام اليوم هو الذي «يفبرك» الجمهور.. جمهور لا علاقة له بالناس، جمهور «عمولة»، أي «معمول خصوصي» للظهور على الشاشات، ضمن ما يمكن تسميته بجمهور(ية) الإعلام، أو مدرسة صناعة الجمهور.

عندما شاركت مؤخرا في ندوة بمدينة الإنتاج الإعلامي في مصر، كان خلفنا جمهور لا بأس بعدده. وكنت مندهشا لحماس الشباب في المشاركة، خصوصا أن معظمهم قد قيل بأنه قادم من جامعات في القاهرة، والمسافة بين وسط القاهرة ومدينة الإنتاج الإعلامي، لمن لا يعلم، تصل إلى ساعة ونصف الساعة في السيارة المحترمة. فلماذا يتحمل هؤلاء الشباب هذه المشقة؟ وكيف نفهم هذا الحماس للمشاركة التلفزيونية، مقارنة بتدني المشاركة في الانتخابات العامة، والذي وصل في الانتخابات الرئاسية إلى 23% فقط من نسبة المقيدين بالجداول. لذا قررت أن أسال بعضهم بعد نهاية الحلقة لفهم هذا التناقض: الحماس في المشاركة التلفزيونية، والعزوف عن المشاركة السياسية في آن معا. ولما اقتربت منهم بعد الحلقة، وجدتهم يتقاسمون ما عرفت فيما بعد ثمن حضورهم، إذ كان النفر منهم يتقاضى خمسين جنيها عن الحضور يوزعها عليهم مقاول الأنفار أو مقاول الجمهور. قال لي أحدهم ولم أتبين إن كان جادا أم مازحا، «النفر من غير سؤال بخمسين جنيها، والنفر بسؤال بمية»!

هذه هي القصة إذن.. إعلانات المقاول لمن يريد جمهورا، سواء أكانت قناة تلفزيونية أو مؤتمرا جماهيريا أو حزبا سياسيا أو حفل استقبال لأحد الوزراء. يصنف المقاول الجمهور حسب نسبة الذكاء، فمن يلم بالموضوع أو بعضه ولديه الجرأة والفصاحة ليسأل سؤلا يتقاضى مائة جنيه عن الحلقة (ما يساوي عشرة دولارات)، أما من يأتي لأكل السندوتشات والمشروب الذي يوزع مجانا قبل الحدث، ثم يجلس صامتا متابعا الكاميرا إذا ما اقتربت منه متصنعا الإصغاء في حالة تشبه الكرسي الجالس عليها، فهذا يتقاضى خمسين جنيها فقط (خمسة دولارات).

تتهافت الفضائيات العربية على هذا الجمهور الجاهز دائما، وهناك مقاولون ممن لا يستطيعون الالتزام بكل الطلبات لزيادة الضغط عليهم، فالمعروض أقل بكثير من المطلوب في البرامج المختلفة. ويعتبر هذا البيزنس من أنجح أنواع البيزنس في مصر. وأضاءت لي تلك المشاهدات الأولية جانبا مظلما لم أكن أعرفه في قضية مذيعة «التوك شو» المصرية هالة سرحان، وما أذاعته قناة «المحور» الفضائية المصرية والخاصة من اعترافات لثلاث فتيات باستئجارهن لدى البرنامج كي يقمن بدور «فتيات ليل» في برنامج «هالة شو» على فضائية «روتانا»، فربما تكون الإعلامية ضحية لمقاول جمهور في ظل انتشار ظاهرة «جمهور للبيع».

مقاولو الجمهور ظاهرة لافتة للنظر في العالم العربي، ولعل أبسطهم هم موردو الجمهور الحقيقي الذين ذكرتهم سابقا، والذين يأتون إليك فعلا بالجثة حية وطرية إلى الاستوديو. أما مقاولو الجمهور الذين يلعبون (على التقيل) هم الذين يبيعون جمهورا وهميا بالجملة، مثل بعض الصحف التي تدعي بأنها تبيع مئات الآلاف من النسخ في مصر. أي أن صاحبها «واضع يده» على شريحة كبيرة من الثمانين مليون مصري، ويمكن أن يحرك هذه الشريحة العريضة لمصلحة أي دولة عربية تريد أن يكون لها تأثير على صانع القرار المصري. هناك مقاولون متخصصون في بيع الجمهور لليبيا أو لإيران و«حزب الله» أو للدول العربية الغنية التي تدفع بالدولار، وكذلك لأي منتج تلفزيوني أو مدير مكتب قناة بالقاهرة لديه الجمهور الجاهز الذي يستطيع إظهاره في تقارير فضائيته لإحراج المصريين حكومة وشعبا.. وما فتيات الليل سوى مثال واضح.

المهم أن بيزنس الجمهور بدأ يتزايد في ظل موجة الغلاء المسيطرة على الشعوب الفقيرة في العالم العربي، ولكن أصحاب الفضائيات والصحف يفضلون الجمهور المصري لأن لهجته واضحة ويمكن فهمها على طول العالم العربي وعرضه.

بيزنس الجمهور مكسب جدا في الإعلام. وعلى سبيل المثال، فعالم الصحافة يعرف جيدا من أصبحوا أثرياء لأنهم أوهموا صدام حسين بأن لديهم جمهورا جاهزا من المصريين يمكن تليينه حسب الطلب.

لو كان الإعلام العربي يطرح في ندواته وبرامجه الحوارية مواضيع تهم الفرد العادي من مشاكل اقتصادية واجتماعية بعيدا عن الشعارات الكبرى والقضايا الطنانة، فهل كان هذا الإعلام سيحتاج إلى جمهور «مفبرك» يملأ كراسي الاستديوهات ويتقاضى ثمن حضوره؟ بالطبع لا. القضايا اليومة تسد عين الشمس، ولكن ندرة من إعلاميينا يتناولونها. هناك الملايين من العرب ممن يريدون لأصواتهم أن تصل إلى الإعلام، لكنهم مهمشون لمصلحة الجمهور الرخيص الذي يقبض ثمن مشاركته، وهو بلا قضية. لو تبنى الإعلام العربي قضايا محلية حقيقية، لما احتاج إلى جمهور مفبرك.

حديث الأستاذ أنيس منصور يفتح أيضا عش الدبابير الخاص بفبركة ردود القراء في عالمنا الإلكتروني الجديد الذي يسمح للقارئ بأن يكون مؤلفا مثل الكاتب وبنفس القدر من المصداقية، ولكن كيف لنا أن نميز في هذا العالم من هم القراء الذين يكتبون الردود، هل هم من الصحيفة ذاتها بقصد «رمي لقوط»، كما يقول أهل العراق كناية عن استدراج الطائر برمي الحب له، أي أن الصحيفة تستدرج القراء بكتابة ردود توحي بالتفاعل معها، كما فعل أستاذنا أنيس في مجلته، أم أنها ردود من أجهزة مخابرات تترصد ما يقال وتشوش عليه ما لم يعجبها كلام الكتاب؟ نحن في حيرة من أمرنا اليوم.

فالجمهور أصبح صناعة مزيفة وخالصة، ولمن يريد أن يكسب قضية سياسية هناك عشرات المحطات التلفزيونية ومقاولو الجمهور ممن هم قادرون على الإتيان بالجثث الطرية إلى الاستوديو لدعم وجهة نظره والتصفيق لها.

قضية صناعة الجمهور تحتاج إلى نقاش جاد. والأمثلة التي ضربتها ليست الوحيدة، فهناك جمهور مزيف لكل شيء. فلم أتطرق مثلا إلى مقاولي جمهور الفنانين، فهناك مقاولو أنفار لحفلات الفنانين الحية التي تجلب فتيات ممن يدعين الإصابة بالإغماء عند ظهور النجم الشاب الجذاب على المسرح. وبالطبع فإن تسعيرة البنات «اللي بيغمى عليها» غير البنات اللي «بتهز وبس»، وغير الست المحجبة اللي «بتسقف»، هكذا قال لي خبير الجمهور. وأما جمهور الدعاة الجدد من أهل الاحتيال باسم الدين، فهذا عالم آخر، وقصة أخرى، بضم الألف.