«بحصة» عون في خدمة خابية «حزب الله».. مجاناً

TT

من مراجعة شريط الأحداث اللبنانية منذ «مذكرة التفاهم» الشهيرة... جاز القول إنه لو لم يوجد النائب ميشال عون، لوجب على «حزب الله» إيجاده ... او على الأقل إيجاد نسخة شبيهة به.

فما كان بإمكان «الحزب» أن يفعل ما فعله بلبنان واللبنانيين خلال السنتين الأخيرتين من دون التغطية «العونية»... داخل لبنان وربما خارجه أيضاً.

المفارقة أن هذه التغطية في حد ذاتها أهم بكثير من الوزن السياسي المجرّد لعون. فـ«حزب الله»، رغم تأكيده المتكرّر إخلاصه لعون ليس في واقع الأمر حليفاً استراتيجياً له، لأن لـ«الحزب» استراتيجية خاصة جداً لا تشمل أياً ممن يزعم ويزعمون أنهم «حلفاؤه»... بمن فيهم عون، حتى لو التزم الأخير بمذكرة تفاهمه واستمات في الإخلاص لها.

واللبنانيون العقلاء الذين صاروا بحكم التجربة أدرى بالنيات الحقيقية للاعبين على الساحة السياسية استوعبوا منذ فترة طويلة الدرس القائل إن حتى أكثر القوى السياسية انغلاقاً وتصلباً تجيد المناورة والنفاق عندما تلوح أمامها فرصة ذهبية تأمل الاستفادة منها. ولهذا من السهولة بمكان سقوط المحرّمات وتلاقي «الأضداد» من منطلقات انتهازية أو كيدية، كتلاقي «كيانيي» التيار العوني و«عروبيي» البعث... وانسجام علمانيي ما تبقى من الحزب الشيوعي اللبناني والحزب السوري القومي الاجتماعي مع «مهدويي» ولاية الفقيه!

وحتى إذا كان «الجنرال» مصرّاً على إقناع نفسه بأنه حليف لـ«حزب الله»، وإن قيادة «الحزب» لا تنام الليل لكثرة تفكيرها بكيفية تسليمه رئاسة الجمهورية على طبق من ذهب في الوقت المناسب، أشك في أن عدداً من أقرب المقربين منه بقي لديهم مثل هذا الوهم اللذيذ. وبناء عليه تصبح المشكلة عملياً محصورة بالنائب عون شخصياً، الذي هنأ المسيحيين خلال الأسبوعين الأخيرين بنجاحه في «إنقاذهم» من سجنهم الانتخابي.

اعتبار عون نفسه منقذاً للمسيحيين ورافعاً للغبن عنهم لأنه رفع صوته، مثل معظم الساسة المسيحيين، مطالباً بقانون انتخابات يجري على أساس القضاء، اعتبار غريب عجيب لجملة أسباب، أهمها:

1- أن البطريرك الماروني نصر الله صفير كان قبل عون، في طليعة المطالبين بالقضاء، بل كان في طليعة العاملين لمصلحة المسيحيين واقعياً لا شعاراتياً، لأنه عمل فعلياً على إعادة المهجّرين منهم عبر «مصالحة الجبل»، ويعمل على وقف هجرة المسيحيين بتشديده على إعادة بناء الدولة ووقف المؤامرات المحاكة ضدها، وهو ومجلس المطارنة كانوا القوة الضاغطة الديناميكية التي أسهمت في صمود المجتمع المسيحي إبان فترة الهيمنة الأمنية على لبنان.

2- إن القوى التي استفادت من الدوائر الانتخابية الكبرى والتي رفضت في الدوحة تطبيق «الدائرة / القضاء» في كل لبنان ـ وبالتالي عارضت «تحرير» مزيد من أصوات المسيحيين ـ هي قوى «الشيعية السياسية» شريكة عون في المعارضة.

3- إن عون ـ مع أن أصحاب الذاكرات القوية لا يُخدعون بعلمانيته ـ طرح نفسه مراراً في الشارع السياسي على أنه صاحب مشروع «وطني لا طائفي»، ولهذا زحف مدمنو «الزحف» على الرابية (حيث مقر إقامة عون) وتسابقوا إلى تدبيج الإعجاب بنضاله القومي العربي وتقدميته المجلجلة. وعندما دخل في «تفاهمه» مع «حزب الله» كان شريكه الشيعي حريصاً على وصفه بالصوت الأكبر تمثيلاً في الشارع المسيحي... لا الصوت الأكثر تطرفاً فيه، ذلك أن تحالف حزب شيعي ثيوقراطي مع تيار مسيحي متطرف لا يمكن إلا أن يفسر على أنه مشروع فتح جبهة ضد الآخرين... كما كشفت الشهور والأسابيع الأخيرة فعلاً.

4- إن معركة عون ضد ما يعتبره «السنيّة السياسية» كانت وما زالت معركة غيره. وهو يزّج فيها المسيحيين... ويمنّنهم، في حين يفرض عليه العقل والواجب تجنيبهم التورّط في مسار دامٍ يدفع لبنان أكثر فأكثر باتجاه «العرقنة». أكثر من هذا، يفرض العقل والواجب على أي قائد مسيحي لعب دور الحَكَم الحصيف بين الطائفتين المسلمتين الأكبر في لبنان، ليس من أجل مصلحة الشريك المسلم في الوطن فحسب، بل من أجل إبقاء من بقي من المسيحيين فيه قبل فوات الأوان. وهكذا، عودة إلى «تحرير» أصوات المسيحيين... يربح «الجنرال» للمسيحيين بالشبر ويكبّدهم الخسائر بالميل!

5- إن المشاريع المتصارعة في المنطقة أكبر بكثير من لبنان، وتأمين عون «البحصة» (الحصاة) التي تسند خابية أحد المشاريع الأقوى إقليمياً، ألا وهو المشروع الإيراني – السوري (وربما الإسرائيلي أيضاً)، مغامرة غريبة تستعصي على الفهم. فالرجل كما نكتشف اليوم من جديد «مسيحي جداً» مع أنه غطى ويغطي تحركات «حزب الله» ومعاركه العلنية والمستترة الهادفة إلى الهيمنة المطلقة على لبنان. والرجل الذي كان يعتبر نفسه حتى الأمس القريب «شهيدا» ما كان يسميه «الاحتلال السوري» هو الآن حبيب الإعلام السوري الرسمي وغير الرسمي.

ما حدث في الدوحة، وما انتهى إليه مؤتمرها على صعيد حسم موضوع رئاسة الجمهورية في لبنان، ما زال عرضة لتأويلات متضاربة، وهو ما أسهم في تأخير تشكيل الحكومة المظلومة باسم «حكومة الوحدة الوطنية الوطنية».

فثمة جهات في لبنان سعت في مطلع مايو (أيار) لإحداث تغيير ميداني على الأرض بقوة السلاح بغية استثماره سياسياً. وهذه الجهات التي تتهم الآخرين بالاستئثار وتطالبهم بالمشاركة هي في الواقع الفئة المستأثرة بكل مفاصل القرار المؤثر، والمتمتعة بالدعم الإقليمي المؤثر، وهي التي ترفض أن يشاركها أحد في ما لديها.

وطالما واصلت هذه الجهات تنفيذ برامج مخططها التوسّعي عسكرياً وديموغرافياً، وطالما أصرّت على مخاطبة الآخرين من موقع الغالب الذي يملي إرادته على مغلوبين، وطالما اقتصر الدعم العربي والدولي على الكلام والشعور الطيب بينما يتواطأ بعض قادة الغرب علناً على مشروع قيام الدولة في لبنان، ستتأجل قيامة لبنان الدولة لمصلحة سلطة دويلة «حزب الله»... حيث لن يكون هناك متسع حتى لعون وأمثاله.