طائفة تستحق الحرق

TT

في دولة عربية فيها موزاييك طائفي، اتصل جندي مطافئ بعالم معروف مستفسرا عن حكم تباطؤه في إطفاء أي حريق يندلع في بيت ينتمي لإحدى الطوائف الموجودة في البلد، وقصارى حجة جندي المطافئ أن لأتباع هذه الطائفة عددا من الانحرافات العقائدية والفكرية، وأنهم بذلك يستحقون ما أصابهم فلماذا العجلة في إنقاذهم ونجدتهم؟ ومع أن هذا الجندي المجرم تلقى من الشيخ ما يستحقه من توبيخ وتقريع، إلا أن تفكير هذا الجندي لا ينبغي أن ينظر إليه على أنه حالة فردية، بل يجب أن يعتبر تقيحا لورم وعرضا لمرض من النوع المعدي، الذي تجب محاصرته ومعالجة المصابين به وتطعيم الأسوياء قبل انتقال العدوى إليهم.

مؤتمر مكة الأخير، الذي عقد حول الحوار، والذي نجحت رابطة العالم الإسلامي في تنظيمه وانتقاء حضوره وقوة أوراقه المطروحة، كان من ضمن أهدافه إشاعة ثقافة الحوار وهذا مطلوب ولا شك، ولكن المشكلة أيضا أن ثقافة الحوار بين أتباع الديانات والعقائد المختلفة ليست الأزمة الوحيدة في عالمنا العربي، فهناك قبل الحوار مشكلة الاعتراف بالوجود أو بعبارة أدق السماح بالوجود، والذي أقصده أن هناك معضلة في الرغبة أصلا في إقصاء طرف على حساب طرف آخر و«إحصائهم عددا وقتلهم بددا وألا تغادر منهم أحدا»، وقد فلتت بعض الفتاوى الخطيرة ووصلت إلى حد إهدار الدم الذي يستغرق جنس أتباع هذه الديانة أو معتنقي تلك العقيدة. هذا النمط من الأفكار أو الفتاوى هو الذي يهدد بتصدع الكيانات وتمزق المجتمعات وجر العباد والبلاد إلى أتون الفتنة وحرائق الحروب الأهلية، وهو الذي ينشر جرثومة المرض، كالتي أصابت جندي المطافئ فجعلته يفرط في واجبه الديني والإنساني والوطني إلى حد التلكؤ والتباطؤ في إنقاذ نساء وأطفال وعجائز حاصرتهم النيران، ولا ينقم منهم سوى أنهم أتباع دين أو مذهب مختلف.

في القرون الزاهية المفضلة الأولى لتاريخ المسلمين كان التدين الحقيقي يحمي حياض العقيدة بحزم، لكنه في الوقت ذاته يحسن التعامل مع المخالف، فالنبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم مثلا جعل، من آذى يهوديا أو نصرانيا في المدينة فقد آذه في شخصه، خذوا مواقف القائد الفذ صلاح الدين، فهو في حماية حوزة الدين وصيانة المقدسات، فارس لا يجارى ومغوار لا يبارى، وحين تضع الحرب أوزارها هو أيضا مع أعدائه فارس التسامح واللين وحسن المعاملة.

في زمننا هذا ارتبطت بعض مخرجات الفهم الخاطئ لمعنى التدين بالحماسة المفرطة في خصومة المخالف والمفاصلة في غير أوقاتها بمبرر أو بدون مبرر، تماما مثلما حصل لجندي المطافئ، فلولا أن لدى الرجل حماسة غير منضبطة لمعتقده وكرها شديدا لمن يعتنق غيرها لما وصل تفكيره إلى هذا الحد المرضي المؤسف، وهناك فرق شديد بين أن تكره ما يخالف معتقدك وبين التعامل بين المخالف، فليس من لازم كراهة معتقد الشخص أن أكره ذات الشخص، وإلا فكيف نتصور إباحة الإسلام للزواج من الكتابية مع إبطان كراهيتها؟ وكيف يعبر لها زوجها المسلم عن حبه لها وهو يمقتها في آن واحد؟

لقد كان المسلمون الأوائل في القرون الإسلامية المفضلة ينظرون إلى المخالفين في الدين نظرة الشفقة والرحمة، رغبة في هدايتهم وإصلاح أحوالهم، فإن تحققت (فذلك ما كنا نبغي)، وإذا كانت الثانية (فلست عليهم بمسيطر)، و(إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء)، ولهذا تلطفوا في عشرتهم وحسنت معاملتهم لهم ودخل كثير منهم في دين الله أفواجا، وهذا بالضبط ما يمليه الدين ويفرضه المنطق والعقل، إذ لا يمكن أن نتصور أن تؤثر في غيرك إيجابا وتسوق لمبادئك بسوء المعاملة والتضييق في العيش وأسباب الرزق، أو بالسباب والحرب الكلامية وإشاعة الكراهية وفتاوى القتل.

[email protected]