قطرة قطرة.. في قطر

TT

حملت صحيفة التايمس في العاشر من هذا الشهر مقالة من أرذل ما سمعته من العنصرية والاستعلاء الإمبريالي. أمضي إلى أكثر من ذلك فأضيف وأقول «والجهل». والعجيب أن يكون كاتب المقالة رجلا دعته قطر لمشاهدة نشاطها الفني، وهو جون ايفنز، محرر مجلة «كلاسيك إف إم» البريطانية. المفروض فيه أن يتذكر كيف تطورت الموسيقى السمفونية في أوربا وكم قرنا استغرق هذا. وبالإضافة إلى ذلك، أن يتذكر أيضا كم من الجمهور البريطاني يستمع حقا إلى هذه الموسيقى والأوبرا ويعبأ بشراء تذكرة لحضور حفلة من حفلاتها. زوجتي الإنجليزية المثقفة تطلق على الغناء الأوبرالي «وجع الرأس الفوري!».

عاد جون ايفنز من الدوحة ليمتشق هذه المقالة المجحفة ضد شعب يحاول اللحاق بذيول المدنية الغربية. بدلا من تقديم نقد بناء وموضوعي ومفيد لما كتبه الموسيقار العراقي سالم عبد الكريم «سمفونية قطر» وبقية مواد البرنامج، راح يسخر من سلوك الجمهور والإدارة بما يوحي بأن العرب غير قادرين على التعامل الحضاري. يحضرون متأخرين، ويخرجون قبل انتهاء العزف ويتكلمون على الجوال أثناء العمل... الخ.

أصبح العرب في هذه الأيام هدفا لكل من يريد أن يتعلم السخرية. ينتقدون العرب على تبديد أموالهم على اللهو والجنس والترف والسلاح بدلا من استخدامها في رفع مستوى شعوبهم وتثقيفها. وعندما نحاول ذلك، كما فعل إخواننا في قطر، يسخرون من المحاولة ويسعون لتثبيط عزائمنا. الظاهر أن ما يريدونه منا هو أن نعطيهم كل ما نكسبه من عوائد ومال ليزدادوا بطرا ومروقا وفسادا.

لعل الكثير من قرائي يتذكرون ما كتبته مرارا في هذه الزاوية عن ضرورة تدريس الموسيقى في مدارسنا وتشجيع النشاط الموسيقي في بلادنا. لم أفعل ذلك لمجرد حبي للموسيقى، وإنما لما أعرفه يرتبط بها من القيم الحضارية والسلوكية والذهنية والعلمية. أشرت بصورة خاصة لما سبق وحققته سلطنة عمان التي قامت بتطوير الفرقة السمفونية السلطانية التي أصبحت الآن من الفرق المعروفة عالميا وأحيت عدة حفلات في أوربا. إنني أستمع إليها تقريبا كل ليلة على التلفزيون العماني. أعطتنا عمان خير مثال على جدوى المبادرة من لا شيء ثم الارتقاء، قطرة فقطرة، نحو النضوج. ولا يخامرني شك في أن الموسيقى الكلاسيكية ستحظى بمرور الزمن بمكانتها في قلوب إخواننا في الخليج، فتلتف حولها نخبة من المثقفين والمتعلمين على نحو ما جرى في سلطنة عمان كما وجدت. الموسيقى الكلاسيكية فن محصور في النخبة المتعلمة في كل مكان.

الاستهزاء بمحاولة المتخلفين في الخروج من تخلفهم وتعلم المدنية الغربية صفة معروفة من صفات العنصريين وركن أساسي من أركان العنصرية الأوربية. كنت أتصور أن بعض المفكرين والكتاب الغربيين قد خرجوا من هذا المستنقع، ولكن مقالة المستر جون ايفنز بددت شعوري هذا. لسنا نحن الذين نحتاج للتنوير. هناك جون ايفنزيون كثيرون يحتاجون أيضا للتنوير.