خدام يرصد رحلة الانحراف في النظام (2/3)

TT

أمضي مع عبد الحليم خدام (الحلقة الأولى من هذه الأحاديث نشرت في الثلاثاء الماضي). الحديث مع النائب الأول لرئيس الجمهورية سابقا في سورية هادئ. شيِّق وممتع. الذاكرة قوية. المعلومات مذهلة. أقف مع خدام اليوم عند أبرز محطات رحلة الانحراف عن الديمقراطية، ثم الانكباب على الإثراء غير المشروع.

المسؤول السوري السابق يقدم شهادة أمينة ودقيقة للتاريخ عندما يبرئ نظام اللواء صلاح جديد (1966/ 1970) من الفساد. جديد من أسرة علوية مرموقة. لم يكن في مراهقته مهتما بالسياسة. كان الفتى الوسيم منشغلا بمغامراته العاطفية. تم تحزيبه بعد انخراطه في الجيش في النصف الأول من الخمسينات.

لماذا انحاز خدام، إذن، إلى جناح العسكر في الصراع مع الجناح المدني الذي تزعمه اللواء جديد؟ لأن جناح جديد كان شديد التزمت الآيديولوجي (الماركسية الطفولية)، وكان من أبرز وجوهه الدكاترة الثلاثة (نور الدين الأتاسي رئيس الدولة. يوسف زعيِّن رئيس الحكومة. إبراهيم ماخوس وزير الخارجية).

جديد عرف كيف يصل إلى السلطة، لكن لم يعرف كيف يحافظ عليها. كانت القطيعة تامة مع الشعب الرافض للتزمت. العلاقة سيئة (بالاستثناء مع عبد الناصر) مع لبنان ودول الخليج. ثم كان التدخل العسكري في الأردن في مقدمة أسباب سقوط النظام. اعتقل الأتاسي وجديد. ظلا في حبس الأسد نحو 25 سنة. أفرج عنهما في التسعينات قبل وفاتهما بقليل. أفرج عن زعين قبلهما. أما ماخوس فقد فر إلى الخارج بمعرفة سفير الجزائر في دمشق آنذاك. وكان الأطباء الثلاثة على علاقة طيبة بالجزائر. فقد خدموا في مشافي الثورة.

يسترسل خدام في ذكرياته: حاول الحزب الحفاظ على نزاهته. شكل الحزب لجنة تحقيق مع الفريق حافظ الأسد (وزير الدفاع آنذاك) بتهمة محاباة الأهل والأقارب. عندما ذهبت اللجنة إليه (كان القيادي المخضرم عبد الله الأحمر من أعضائها) في مكتبه، هدد الأسد أعضاءها بقذفهم من الشرفة. كانت تلك بدايات التسلط في النظام الذي استشرى بعد إمساك الأسد بالسلطة، لا سيما بعد حرب تشرين (1973).

يكشف خدام هنا عن طبيعة الأسد الأب الحذرة والمترددة. تردد الأسد كثيرا في القيام بانقلابه، أو ترئيس نفسه. طلب مني الذهاب إلى الأتاسي، وإقناعه بالبقاء رئيسا للدولة بعد اعتقال جديد. ذهبت. حاولت. عبثا، رفض الأتاسي بتحريض من زعين. أصر الاثنان في هوسهما الآيديولوجي اللاواقعي على محاكمة الأسد والجناح العسكري، بتهمة التمرد على الشرعية الحزبية.

لماذا تردد الأسد؟ لأنه كان يخشى تمرد الأغلبية السنية عليه، إذا ما أصبح، وهو العلوي، رئيسا للجمهورية. وهكذا، بحثنا عن رئيس سني. عثرنا عليه في «الرفيق» الطيِّب أحمد الخطيب. تَمَّ تعديل الدستور ليصبح بإمكان أي سوري ترشيح نفسه وتولي الرئاسة.

يمضي خدام في الكشف عن بدايات عبادة الشخصية: قام الأسد بجولة في المحافظات. ذهل عندما استقبله الشعب بترحاب كبير. حمله الناس على الأكتاف. منذ ذلك الحين، ظن الأسد «أن الشعب فوضه انتهاج سياسته الداخلية التي بصمت عهده بالانغلاق الدكتاتوري». طلب مني الأسد تشكيل الحكومة. اعتذرت. قلت له: أنا وأنت من المنطقة الساحلية. الأفضل ترئيس رئيس حكومة دمشقي. عثرنا على «الرفيق» محمود الأيوبي. الرجل طيِّب. لكن كثير المجاملة والنفاق للأسد.

بشيء من التورية الساخرة، يعلق خدام على نزعة عبادة الشخصية عند الأسد الأب. يقول: «ليس هناك إنسان يستأثر بسلطة مطلقة ويبقى عقله كاملا». تغير الأسد كثيرا في السبعينات. بعد الانقلاب، قلت له لنضع منهاجا للعمل. تعهدنا في وثيقة مكتوبة بتطبيق الديمقراطية والانفتاح الاقتصادي. لم يتم تطبيق شيء منها، تماما كما حصل مع بشار. وأشرف النظام في نهاية السبعينات على مأزق داخلي وخارجي.

يضيف خدام: فكرت. رأيت لا بد من مبادرات في السياسة الخارجية لتخفيف الضغط على سورية. قلت للأسد: لماذا لا نعقد معاهدة صداقة وتعاون مع الاتحاد السوفيتي؟ وافق. أرسلنا خالد بكداش (أمين عام الحزب الشيوعي) للتمهيد مع موسكو. نجحت مهمة بكداش. عقدنا المعاهدة التي تلزم الطرفين بالدفاع المشترك في حالة تعرض أحدهما لعدوان. بالفعل، تراجعت الضغوط والتهديدات. كان موقف الأمير فهد بن عبد العزيز ولي عهد السعودية آنذاك متفهما للموقف السوري.

في ظروف صلح كامب ديفد، رأيت كوزير للخارجية أن الأفضل الاقتراب من العراق. رحب الأسد. ذهبت إلى بغداد. بادرنا إلى طرح مشروع وحدة سياسية وحزبية بين البلدين. وضعت مع طارق عزيز مشروع الوحدة السياسية. تشكلت لجنة للوحدة الحزبية. كان الانسجام تاما على مستوى القمة، على الرغم من تنحي البكر عن منصبه. في القمة الختامية ببغداد، اتفقنا على إعلان الوحدة في أول سبتمبر (1979). اشتعلت بغداد بإطلاق الرصاص فرحا وترحيبا. عندما كنا نتناول الطعام، كان صدام يحرص على تناول الطعام المشترك أولا، لطمأنة الأسد. زيادة في التكريم، كان يضع قطع السمك المشوي (المسقوف) بنفسه في صحن الأسد.

عندما عدنا إلى دمشق، فوجئنا بعد أيام بخبر مقتضب من بغداد يعلن إحباط محاولة انقلابية «لتحقيق وحدة فورية» مع سورية! ذهبت إلى بغداد لأعرف. استقبلني صدام بفتور. أحضر من المعتقل عبد الحسين مشهداني (أحد القياديين المتهمين). كان بحالة يرثى لها. ادّعى أنه قبض مبالغ مالية (تافهة) من السفير السوري والملحق العسكري في بغداد. جلست طويلا مع صدام لإقناعه بلا جدية «المؤامرة» المزعومة. قلت له لماذا حكاية الانقلاب لتحقيق وحدة كنا قد اتفقنا عليها. تظاهر صدام بعدم الاقتناع، وأعدم رفاقه، بمن فيه المشهداني وعدنان حمداني نائب رئيس الحكومة.

سألت أبا جمال عما إذا كانت مخابرات الأسد دبرت شيئا من قبيل المؤامرة الانقلابية على صدام. نفى الرجل نفيا قاطعا. قال إنه واثق من موقفه ومعلوماته. بعد انهيار مشروع الوحدة، قام خدام بجولة عربية لاطلاع العرب على ملابسات الانهيار. يقول: قابلت في الأردن مُضَر بدران (رئيس الحكومة آنذاك). دهشت. راح بدران يؤكد واقعة (المؤامرة)، مركزا الاتهام والشكوك في عدنان حمداني (الشيعي).

أعتقد أن رواية خدام عن مشروع الوحدة صادقة وأمينة. لكن في ظني الشخصي أن الوحدة لو قامت لكان عهدها قصيرا، لأن التعاون والتفاهم كانا مستحيلين بين شخصين يعتقدان أن «المركب التي فيها ريسين تغرق».

لماذا ظل خدام يعارض عزم حافظ توريث شقيقه الأصغر رفعت منصب الرئاسة؟ ولماذا طلب الخميني اللجوء إلى سورية منسحبا من فرنسا؟ هل انتحر المخابراتي عبد الكريم الجندي أم نُحِر؟ وما الفارق بين الشهابي وعلي دوبا؟ وبين الشرع ووليد المعلم؟... جعبة خدام التاريخية لم تنفد. ما زال هناك متسع لحديث آخر وأخير مع الرجل الذي يعرف كثيرا.