زمان النفط

TT

النفط، وبعد صولة هذه الاسعار القياسية بل الخيالية، يحتل الصدارة في الاهتمام الاقتصادي والسياسي العالمي، والاقتصاد والسياسة كما نعلم وجهان يقود كل منهما الآخر، في كثير من الاحيان.

برميل النفط، بأكثر من تصنيف، تخطى حاجز المائة والثلاثين دولارا، وهو في طريقه، حسب الخبراء، الى سقف المائتي دولار، الامر الذي رش القلق في نفوس البشر، وعلى ضفاف شواطئ العالم ترسو سفن الذعر حذر ليل طويل من البلاء الاقتصادي والتنموي.

بان كي مون، أمين الامم المتحدة، جاء للسعودية، قائدة دول النفط، ليتحدث، فيما يتحدث، عن كيفية مساعدة السعودية في لجم هذا الهيجان السعري للنفط. وقال إن المملكة قررت رفع انتاجها النفطي في يوليو بمقدار 200 الف برميل يوميا استجابة لطلب زبائنها.

وكانت السعودية قد اعلنت استضافة اجتماع للدول الكبرى المنتجة والمستهلكة للنفط في 22 يونيو الحالي في جدة لبحث الزيادة المتسارعة في اسعار النفط .

اسعار النفط زادت بمقدار خمسة اضعاف منذ 2003 لأسباب عدة ابرزها التوتر السياسي في الشرق الاوسط وارتفاع الطلب في الدول الناشئة مثل الصين والهند، كما قالت وكالة فرانس برس.

هذه الزيادة ليست بالأمر المقتصر على تحول التريليونات الدولارية النفطية من معسكر الدول المستهلكة الى معسكر الدول المنتجة، إنها تعني تبدلات ضخمة في كثير من المجالات والقطاعات والخدمات، من أبسطها وأصعبها في نفس الوقت، حدوث تغيرات كبرى على وتيرة العولمة التجارية، فيما يخص حركة نقل البضائع.

وحسب تقرير كتبه مجموعة من المتخصصين في مجلة «نيوزويك» الامريكية فإنه ان استمرت اسعار النفط بالصعود ولم تعد الاعانات الحكومية متوفرة، وهذا امر محتمل، فستنتشر ثورة من نوع جديد هي: ثورة الطاقة، وهي تعني جملة من التغيرات السلوكية الاستهلاكية، كما تعني أفقا جديدا في التفكير بالطاقة النظيفة والحد من استخدام البترول، او «إدمان النفط» حسب عبارة الكاتب الامريكي توماس فريدمان، وهو من ابرز المتحمسين لإيجاد مخرج من الإدمان على نفط الشرق الاوسط والدول الاوتيقراطية، كما توصف.

بعض أصدقاء البيئة يرحبون بهذه الزيادة في سعر النفط، لان «المدمنين» عليه سيلجأون الى ثورة سلوكية في استهلاك النفط، من خلال البحث عن مصادر صديقة للبيئة او على الأقل الحد من استهلالكه عبر إضافة شروط إلزامية جديدة على الوسائل التي تعتمد على النفط مثل السيارات، وذلك بوضع حد إجباري معين للسرعة، وتقوية انظمة العزل في البيوت للحد من الحاجة القصوى للتدفئة او التبريد.. الخ.

لكن مع هذه الزيادة الذاهبة، إلا بحدوث شيء كبير حاد، نحو حاجز المائتي دولار، تصبح الأمور أصعب بكثير من تخيلات اصدقاء البيئة، لأن هذه الارتفاعات تمس بنية وجوهر الحياة الاستهلاكية للعالم كله، ويكفي فقط أن نعرف ما الذي سيصيب قطاع النقل الجوي والطيران العالمي من تراجع في حركته بسبب زيادة سعر وقود الطائرات، كذلك الأمر مع شركات السيارات التي تصنع عربات الدفع الرباعي. وشركات نقل البضائع. ويشير تقرير الـ«نيوزويك» الى ان شركة «اميركان ايرلاينز» اعلنت أنها ستخفض عدد رحلاتها بسبب عدم امكانية تشغيل طائراتها الكثيرة الأقدم طرازا، والتي تستهلك كميات اكبر من الوقود. كما حذرت شركتا «ايرفرانس» و«كيه إل إم» من ان الارباح ستنخفض بنسبة الثلث على الارجح في هذه السنة. ويلمح رئيسها التنفيذي جان سيرل سبينيتا الى ان ارتفاع سعر النفط الى 200 دولار سيشكل صدمة اكبر من تلك التي سببتها هجمات 11 سبتمبر على العالم!

ليس هذا فحسب، بل سيتحول عجز بعض حكومات الدول النامية وشبه النامية على تغطية كلفة ارتفاع النفط لدى شعوبها الى حدوث قلاقل وثورات سياسية، والى اندلاع المزيد من أحداث التوتر والنزاع السياسي. والمفارقة ان ازدياد سعر البترول يؤدي الى اشتعال الصراع بين القوى الداخلية في هذه الدولة او تلك على مورد النفط، واشتعال الصراع يؤدي بدوره الى زيادة سعر البترول، في ثنائية مغلقة عجيبة، حسبما لاحظ احد الخبراء.

يجب أن نتذكر هنا أن ثلث الحروب الاهلية والنزاعات في العالم تقع في بلدان نفطية، حسب تقرير المجلة السياسية الامريكية، وتوقع فيه كتَّاب التقرير الخمسة أنه «سيكون هناك دم» من أجل النفط، وهذه العبارة المقوسة هي عنوان الفيلم الامريكي الذي حاز الأوسكار الأخير، وقام فيه الممثل دانيال دي لويس بأداء دور منقب نفط قاس في الجنوب الامريكي.

يتحدث الفيلم عن مرحلة مبكرة عن التنقيب النفطي البدائي في امريكا، وصراع رأس المال والموارد الطبيعية. تجري أحداث الفيلم منذ 1898.. وكيف تدور الصراعات وتراق الدماء وتخلق الشعارات السياسية حول شعلة النفط النارية المقدسة.

من أهم التغيرات التي ستطرأ على الخيال السياسي الذي سيتبدل بدوره، جراء تكدس المال وثروة العائد النفطي لدى عمالقة النفط ومستهلكيه في الاقتصادات الكبرى الجديدة مثل الصين والهند او روسيا ودول الخليج، هو أنه قد تحل أفكار وقيم بدل الافكار والقيم الغربية حول: المجتمع المدني، وحقوق المرأة... الخ لتصبح مجموعة جديدة من القيم ناتجة عن وضعية قوة اقتصادية كبرى على مستوى العالم، وهو توقع لا يزال في حيز الافتراض البحت.

النفط، كما هو عصب الصناعات والترف الذي يعيشه العالم من اجهزة التلفزيون الى ماكينة الحلاقة، هو ايضا سبب كثير من الدماء التي اريقت، وستراق قريبا بسبب النفط، وها نحن نحن نشهد نزاعا برائحة النفط في أبيي السودانية، أو أربيل العراقية، وأزمات اخرى ناطقة وصامتة حول موارد النفط.

النفط بطبيعته سلعة ناضبة، وهو ان لم يستغل في الدول المنتجة له، وبالذات الدول العربية، في سبيل بناء انسان جديد، انسان هو ثروة بحد ذاته، بعلمه وخبرته واجتيازه للآفاق، فانه سيصبح مجرد سيجارة ممتعة تنتهي الى رماد يتساقط على منفضة النسيان، ولا شيء بعد ذلك.

كثير من ابناء النفط نظروا اليه نظرة ملتبسة ومختلطة، ما بين انه هبة قدرية من اجل إخراج هذه البلدان التي عانت كثيرا من الفقر من وضعها البائس اقتصاديا، بضربة قدرية واحدة، تختصر المسافات، وما بين ناظر لهذه الخامة السوداء نظرة شك وريبة بسبب انها أغرت قوى العالم الكبرى فيها، وجعلت بلدانهم مسرحا لتجاذابات الاقطاب الدولية، وبسبب تشويه الطفرة النفطية المفاجئة لوتيرة التطور الطبيعي للمجتمع نحو الانفتاح المتدرج، ولكن الحتمي.

الحق أن النفط ليس لعنة ولا نعمة بحد ذاته، يكون نعمة او نقمة بحسب استعمالنا له، وكيفية استغلالنا لإيراداته في سبيل بناء الانسان الحر الذكي المتعلم الجريء، غير الهائب من العالم، باختصار: في كيفية شراء وضمان المستقبل. أما إذا تبخر مال النفط في إنفاقات غير رشيدة، او مثمرة بشكل دائم، فسيصبح تاريخ المال النفطي مجرد حقبة صغيرة يؤرخ بها لنا، إن بقي من يهتم بالتأريخ لنا.. أمم النفط.

في النهاية فإن لقصة ارتفاع النفط طرفين، مستفيد ومتضرر، من يكسب المال هو المستفيد، ومن ينفقه هو المتضرر، لكن قد لا تكون المعادلة بهذه البداهة احيانا، إذ أن تكديس الحسابات الخارجية بالأموال او عدم تثمير هذه الايرادات في اتجاه بناء مشاريع حيوية ودائمة تصب في بناء «الانسان الجديد» قد يحقق مقولة «لعنة النفط» لأن الايراد النفطي هنا لا يصنع سوى إبقاء التخلف التنموي على ما هو عليه مضافة اليه مميزات مادية ورفاهية عالية، الامر الذي يعني «تحديث التخلف»، ولكنه ـ اي المال النفطي ـ يتحول الى نعمة، وأي نعمة، اذا ما صب في إناء التنمية الحقيقية وتعزيز قيم العلم والعقل والانفتاح، التي هي اساس المجتمعات الباقية والمحصنة، والعروة الوثقى للدولة الرشيدة.

خمسون، او حتى مائة او مائة وخمسون سنة، هي مرحلة قصيرة جدا في مسيرة الامم والمجتمعات، اعني بهذه التقديرات الزمنية ما يقال عن عمر نضوب البترول هنا او هناك، لن تذكر إلا كمرحلة عابرة، لكن سنة او حتى شهرا او يوما، في عمر الامم والمجتمعات، قد تكون بألف سنة، بسبب ما جرى فيها من تحولات وتوجهات وقرارات ذات أثر دائم وخالد، لا يفنى ولا يبيد.

المعيار هو في الانتباه لصوت الزمن والاصغاء اليه بتيقظ حاد، وهذا ما ينتظره أبناء النفط من النفط حتى يكون نعمة لا نقمة.