في سر العلاقة بين واشنطن وتل أبيب

TT

لماذا تفضل الولايات المتحدة الأمريكية إسرائيل على بقية دول المنطقة في علاقاتها السياسية؟ وما هي دوافع تلك المحاباة لدولة واحدة على حساب بقية دول المنطقة؟ ولماذا تبدو العلاقة الأمريكية الإسرائيلية للبعض وكأنها زواج كاثوليكي لا يمكن فصم عراه، سواء على المدى القريب أو البعيد؟ وهل يكمن سر هذه العلاقة المميزة فقط، في قدرة اللوبي اليهودي على استمالة الإدارات الأمريكية المتعاقبة لصالح السياسات الإسرائيلية؟ وهل بمقدور العرب، في ما لو استطاعوا خلق لوبي مواز للوبي اليهودي، أن يستميلوا الإدارات الأمريكية لصالح قضاياهم؟

مثل هذه الأسئلة وغيرها أثارت، على مدى العقود الستة الماضية، جدلا كبيرا في الأوساط الفلسطينية على اختلاف مشاربها الفكرية، فتصدت لها هذه الأوساط باختزال السياسة في بعض المفاهيم المبتسرة، التي نهلت من نبع التفسيرات العاطفية النزقة أكثر مما نهلت من السياسة كعلم قائم بذاته. ويمكننا ملاحظة أن الخطاب السياسي الفلسطيني، الذي حاول التصدي للإجابة عن تلك الأسئلة سار في اتجاهين متوازيين، الأول ذهب إلى حد تقزيم إسرائيل واعتبار وجودها في المنطقة بفعل إرادة خارجية وأنها لا تزيد عن كونها أداة بيد الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا، بهدف التصدي لأي مشروع عربي نهضوي أو تحرري.

أما الإجابة الثانية وهي السائدة حاليا، فهي تلك التي قزمت الولايات المتحدة ذاتها لتعتبرها هي الأداة لتحقيق الأهداف والمآرب الإسرائيلية في المنطقة. وكلا الإجابتين الجاهزتين لا تزالان عميقتا الغور في بنية هذا الخطاب، من دون إجراء أية مراجعات عليهما، على الرغم من الانقلابات الكبيرة في المفاهيم والرؤى والأحداث الساخنة والملتهبة والحروب التي قامت في المنطقة التي دحضت بصورة قاطعة هاتين النظريتين.

لقد أسقطت حرب الخليج الثانية نظرية إسرائيل ـ الأداة، وبرهنت على أنه لا الغرب ولا الولايات المتحدة تحتاجان لمساعدة إسرائيل لخوض حرب بالنيابة عنهما في المنطقة، وأن تلك الأطراف قادرة إذا ما دعت الحاجة على اختصار المسافات والتدخل المباشر من دون الحاجة إلى مساعدة إسرائيل، لا بل وأكثر من ذلك أيضا فإن إسرائيل في هذه الحرب لم تستبعد فحسب، بل ركنت على الرف وحافظت على الهدوء الذي طلب منها، إلى الحد الذي تجنبت فيه حتى الرد على الصواريخ التي أطلقت عليها من قبل قوات نظام صدام حسين آنذاك.

وفي المقابل، فإن الاحتلال الأمريكي للعراق الذي قيل عنه إنه حرب بالنيابة عن إسرائيل لتحقيق أهدافها التوسعية ولفرض معاهدة سلام بينها وبين العراق، لم يسفر، رغم مضي خمس سنوات على وجوده، عن أية معاهدة سلام أو أي اتفاقية من أي نوع ، بين إسرائيل والعراق.

وربما كان العقل الذي أفرز كلا الخطابين تقصد ألا يرى في العلاقة الأمريكية ـ الإسرائيلية ما هو أعمق من الظاهر، فالسياسة في النهاية كما العلاقات السياسية لا تبنى وفقا للأهواء الشخصية أو العاطفية أو وفق معيار الحق والباطل، بقدر ما تبنى وفقا للمصالح والقيم المشتركة. والعلاقة الإسرائيلية ـ الأمريكية مثل أية علاقة سياسية، لا تشذ عن هذه الأسس. وإذا كان صحيحا القول، أن اللوبي الصهيوني استطاع ترسيخ العلاقة مع الولايات المتحدة منذ عهد ترومان وأن السياسة الإسرائيلية اتجهت وعملت منذ البداية على اتباع إستراتيجية بناء علاقات متميزة مع القوة العالمية المهيمنة، فإنه من الصحيح أيضا القول إن هذا اللوبي ما كان له أن ينجح في مساعيه من دون وجود مصالح وقيم مشتركة بين الطرفين. والمقصود بالقيم المشتركة ليس فقط أن كلا المجتمعين الإسرائيلي والأمريكي يتشابهان من حيث اعتمادهما على الهجرة الخارجية، وإنما أيضا وبصورة أكثر خصوصية، أن كلا الدولتين تجمعهما قيم الدولة الحديثة القائمة على أساس من الحريات السياسية وتداول السلطة عبر صناديق الاقتراع. هذه القيم هي في الحقيقة نقطة التقاء الأهم التي تشكل الأرضية الأساسية للبناء عليها في كل المجالات، سواء منها الاقتصادية أو السياسية، وهي التي تساهم بدور كبير في إعطاء العلاقة صفتي الديمومة والثبات.

وهذا لا يعني عدم بروز خلافات بين الدولتين، كما لا يعني أن لكل دولة رؤيتها وأولوياتها في الكثير من المجالات، كما لا يعني أن تظهر بعض الأزمات كتلك التي حدثت على أثر تصدير تل أبيب لخمس طائرات هجومية متطورة من دون طيار إلى الصين، من دون التشاور مع الولايات المتحدة، كما نص اتفاق التعاون العسكري، إلا أن هذه الأزمة أمكن التغلب عليها بالطرق الدبلوماسية ولم تؤثر على أساس نسيج العلاقات الإسرائيلية ـ الأمريكية. صحيح القول إنه ليست في السياسة علاقات صداقة دائمة أو عداوة دائمة، ولكن نادرا ما اختلف الطرفان بطريقة تؤدي إلى مناصبة العداء، لأنهما يمتلكان الأساس للبناء عليه. في حين أن علاقات الولايات المتحدة مع الفلسطينيين لا تملك تلك الأرضية المشتركة، التي تؤهلها لتكون ذات أفضلية، فهؤلاء تختلف معهم في القيم الأساسية المذكورة أعلاه، والعلاقة بين معظمهم وبين الولايات المتحدة تتنازعها عوامل الشد والجذب، وتكتنفها الأزمات من وقت لآخر وهي لا تملك صفة الثبات والديمومة.

قصارى القول إن مستقبل العلاقات الأمريكية ـ الفلسطينية، سيظل على حاله، بسبب انتفاء أي قاعدة لبعد استراتيجي يمكنه الجمع بين تلك المتناقضات على صعيد القيم، وربما لهذا ستظل إسرائيل هي الأقرب والأكثر ثقة وستظل علاقاتها بالولايات المتحدة، كما صرح مرشح الرئاسة الأمريكية، باراك أوباما، فوق أية اعتبارات حزبية أو رئاسية.

* صحافية فلسطينية مقيمة في فيينا