أبوة

TT

احتفل العالم الغربي منذ يومين بمناسبة جميلة ومهمة وهي «يوم الأب» وهي مناسبة الغرض منها التذكير والتركيز على دور الأب في إرساء قواعد الأسرة السوية، وإبراز دور القدوة في حياة الصغار بشكل عملي وملموس. في المجتمعات العربية هناك مكانة أكبر وأهم بكثير لمقام الأم، وهذا عائد أولا لمقام الأم في الإرث الديني مع عدم إغفال أن الأمومة هي غريزة أساسية عند المرأة، والأبوة ليست كذلك. فالأبوة هي قرار أخلاقي يختار فيه الرجل أن يكون «أبا مسؤولا» يرعى رعيته وذريته بدلا من أن يحمل لقب الأب دون أن يمارسه في مجتمع بات مليئا بالذكور ونادرا بالرجال. هناك فرق شاسع بين الوصفين؛ فالأول وصف «بيولوجي» والثاني وصف أخلاقي وفروسي بحت. هناك مخاوف متزايدة على وضعية الأسرة بدورها التقليدي إلى تقلص نتاج المتغيرات الاجتماعية الحادة التي طرأت، هذه المخاوف حقيقية وليست وهمية أبدا. الأب دوره التقليدي إلى تقلص وليس المقصود هنا الشخصية الكاريكاتورية المتسلطة التي قدمت بالسينما باسم «سي السيد»، ولكن المقصود هنا هو الكم والنوعية الزمنية التي يقدمها الأب لأسرته، وهو أمر بات من الرفاهيات والأحلام كما يبدو.

وذكرني أحد الأصدقاء بقصة «مرعبة» ولكنها حقيقة عن مجلس إدارة بإحدى المدارس المرموقة بمدينة عربية كبيرة أتى إليها ولي أمر أحد الطلبة وقام بالسؤال عن ابنه «جئت اليوم لأعرف ما هي أخبار ابني عندكم؟ وكيف هو أداؤه الدراسي؟»، فما كان من مدير المدرسة سوى الالتفات باندهاش شديد وانزعاج أشد ليقول له «نحن الذين نسألك عن أخباره! ابنك يا سيدي الفاضل تخرج منذ ثلاث سنوات!». أعلم تماما أن المناداة «بيوم الأب» ستلقى الاعتراض والاستهجان والممانعة لأسباب معروفة ولأسباب مستهلكة (كما هي العادة والحال مع أي طلب له علاقة بالاحتفاء بمناسبات تزكي أواصر العلاقات الأساسية وتزكي السلوك الجيد في مناسبات محددة) وهذا الرفض سيكون «متطابقا» مع أفكار أشهر «الآباء» الذين يتكرر ذكرهم على مسامعنا ويكدرون أفكارنا ويؤرقون مضاجعنا. آباء من شاكلة «أبو مصعب» و«أبو قتادة» و«أبو حمزة» و«أبو حفص» وغيرهم من جهابذة التطرف وأباطرة التنطع. انتقال الأمانة من جيل إلى جيل هي أشبه بسباق تتابع دقيق للغاية يجب تسليم وتسلم العصا بمهارة، والعصا هنا هي الخبرة والمسؤولية والوقت والعطاء. والآباء يعملون ويجاهدون ويضحون من أجل أبنائهم وأسرهم، ومنهم من يحرم نفسه من الكثير لأجل إمتاع غيره بصمت وبإخلاص. وليس من نجاح ليس من ورائه أب سهر وأعطى وزرع وحصد. تكريم الآباء بإحياء يوم مخصص لهم فكرة طال انتظارها وبها يتم وبرمزية شديدة تكريم كل أب قد رحل وكل أب آت، ولكنها مطلوبة وبقوة لتذكير الناس بقدوتهم الأولى بينهم. أكتب هذه السطور متذكرا أبي رحمه الله الذي افتقدته كثيرا. «وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا».

[email protected]