الخروج الأمريكي من العراق!

TT

مهما كانت نتائج الانتخابات الأمريكية القادمة في نوفمبر القادم فإن واحدة من أهم نتائجها سوف يكون الخروج الأمريكي من العراق، وهو الأمر الذي سوف تكون له نتائج متوسطة وطويلة المدى على المنطقة والعالم. وليس معنى ذلك أن أسلوب المرشحين لمنصب الرئاسة الحاليين سوف يكون واحدا، فعلى جانب باراك أوباما فإن منهجه في سحب القوات الأمريكية سوف يقوم على حزمة من الخطوات الدبلوماسية في إطار الأمم المتحدة، ترافقها خطوات أخرى سياسية للتفاهم والضغط على إيران وسوريا مع تعبئة لقدرات سياسية واقتصادية ومعنوية للدول المجاورة الصديقة للولايات المتحدة وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية ومصر والأردن وتركيا. وفي هذا الاقتراب سوف يكون الرئيس الأمريكي الجديد مستخدما لصورته كرجل أكثر تفهما وفهما لأخطاء الرئيس السابق، والحاجة إلى فترة وصفحة جديدة للتعامل وبناء العلاقات مع الأصدقاء والأعداء في ذات الوقت.

وعلى الجانب الآخر فإن جون ماكين الذي أعلن عن استعداده للبقاء في العراق لمائة سنة أخرى فإنه لن يكون أقل تلهفا على الخروج من العراق ولكن منهجه سوف يقتبس الكثير من منهج الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون الذي كان أكثر المرشحين الأمريكيين تشددا إزاء الحرب في فيتنام، ولكنه كان الرجل في النهاية الذي تفاوض مع فيتنام الشمالية آنذاك، وعقد الاتفاق معها، وسحب القوات الأمريكية في النهاية. هنا فإن ماكين لن يتورع عن فعل ما فعله نيكسون من قبل في تصعيد الحرب واستخدام القوة إذا كان ذلك ضروريا لإقناع الآخرين في العراق وإيران وكل الأشرار من وجهة النظر الأمريكية بأن الولايات المتحدة ليست في عجلة من أمرها وأنها لا تتخذ قراراتها من موقع الهزيمة.

ولكن أيا ما كان المنهج المتبع فإن النتيجة سوف تكون واحدة، وربما اختلف الموقف من حيث الفترة التي يستغرقها كل منهج، ولكن الأرجح أن الفارق بينهما سوف يحسب بالشهور أكثر مما يحسب بالسنوات. وفي الجوهر فإن كلاهما يعاني من ناحية عناصر القوة انقلاب الرأي العام الأمريكي على الحرب وتزايد رفضه لها، وارتفاع التكلفة الاقتصادية والاستراتيجية للحرب، وباختصار فإن الخروج من العراق سوف يعطي الرئيس الأمريكي الجديد قدرا من الوقت لإعادة الحسابات الكونية الأمريكية من جديد. ولكن ليس معنى ذلك أن الولايات المتحدة سوف تكون على استعداد للإعلان عن استسلامها وتسليم العراق للقوى المضادة لها، فمن الناحية الأخرى لعناصر القوة فإن الأمر في العراق نفسه يعطي الولايات المتحدة أوراقا لا بأس بها حيث حققت استراتيجية «التصعيد» نجاحات ملموسة من حيث حصر نطاقات العنف جغرافيا بالنسبة لجماعات «القاعدة في الشمال الغربي ومنطقة الموصل، وتحقيق تحول واضح في مواقف الرأي العام العراقي إزاء الجماعات الرافضة لكل التحولات الناجمة عن الغزو الأمريكي للعراق خاصة على جانب السنة. ولا يقل أهمية عن كل ذلك أن الحكومة العراقية الحالية رغم الانتقادات المشروعة الموجهة لها حققت بعضا من النجاح على صعيد المصالحة الوطنية حينما وجهت حملة عسكرية ضد العناصر الشيعية المتطرفة لمقتدى الصدر، وفي نفس الوقت أقرت قانونا للعفو العام، وآخر للمعاشات، وثالث لاستئصال البعث يتوجه فقط للعناصر القيادية من نظام صدام حسين، ورابع لسلطات الأقاليم يعطي بدايات فيدرالية ولا مركزية لدولة عراقية جديدة. وفي نفس الوقت فإن السلطات العراقية تقوم بتجهيز قوانين وخطوات سياسية هامة منها إجراء انتخابات الأقاليم، واستخدام عوائد البترول بطريقة تدعم التنمية في العراق وتعطيه دفعة جديدة بعد سنوات من التدمير.

كل ذلك لا يعني بالضرورة أنه بوسع الولايات المتحدة إعلان النصر في العراق، لأن الأوضاع بعيدة كل البعد عن ذلك، ولكن النقطة الهامة هنا أن الرئيس الأمريكي سوف يبدأ تطبيق منهجه ومعه بعض الأوراق والأرصدة العراقية التي تساعده على الحركة الدبلوماسية والسياسية. وربما يعطيه بعض من القوة أن الحرب في العراق على تكلفتها الاقتصادية العالية ليست مكلفة كما تبدو بنفس الدرجة التي كانت عليها في حروب أخرى خاضتها الولايات المتحدة من قبل أخذا بالأسعار الثابتة لعام 2007 فإن تكلفة الحرب في العراق والحرب على الإرهاب عموما قد بلغت 439 مليار دولار سنويا وهو ما يمثل 3.9% من الناتج القومي الإجمالي و20% من الإنفاق الفيدرالي، أما في حرب فيتنام فقد كانت 650 مليار دولار أو 9.4% من الناتج القومي الإجمالي أو 46% من الإنفاق الفيدرالي، وفي حرب كوريا كانت التكلفة السنوية 650 مليار دولار أو 14.2% من الناتج القومي، و69.4% من الإنفاق الفيدرالي، وفي الحرب العالمية الثانية كان إجمالي الإنفاق 3.2 تريليون دولار أو 37.5% من الناتج القومي و 89.5% من الإنفاق الفيدرالي.

كل ذلك لا يعني بالطبع أن الحرب الحالية في العراق غير مكلفة، فهي كذلك خاصة على ضوء أزمات أخرى يمر بها الاقتصاد الأمريكي فضلا عن تكلفة الفرصة البديلة، ولكن المسألة هنا هي أنه من زاوية الحسابات الاستراتيجية البحتة فإن الرئيس الجديد عند تطبيق منهجه سوف يظل لديه فائض اقتصادي من عناصر القوة يعينه بأشكال شتى أثناء عملية التطبيق. وربما كان الأمر نتيجة هذه العوامل كلها قد قاد الرئيس الأمريكي الحالي جورج بوش لاستباق الانتخابات باتفاقية أمنية بين العراق والولايات المتحدة تعكس الوضع الحالي لتوازنات القوى وتعطي الولايات المتحدة بعد انسحابها بعضا من المزايا الاستراتيجية في العراق تعينها على إعادة ترتيب الأوضاع في المنطقة في تعاملاتها مع موضوعات الإرهاب والنفط وإيران.

وهنا فإن النظرة العربية واجبة على الأوضاع الراهنة والمستقبلية في العراق لأن الأوضاع الاستراتيجية سوف تتغير كلية بعد الانسحاب الأمريكي عندما تتحرك قوى عديدة للتعامل مع وضع جديد كلية على العالم العربي والشرق الأوسط كله. والحقيقة فإننا عندما نتحدث عن النظرة العربية فإننا نعني موقف الدول العربية مثل السعودية ومصر والأردن وسوريا ودول الخليج العربية وهي الدول التي سوف تتأثر مباشرة بالتغير الجاري في العراق. ومن واجب هذه الدول على نفسها وعلى المنطقة كلها أن تشارك في صنع التغيير الذي سوف يجري سواء من خلال التعامل مع الولايات المتحدة أو العراق أو إيران أو تركيا وهي الأطراف التي سوف تكون لها تأثيرات مختلفة على التحولات الجوهرية في بغداد.

وفي الحقيقة فإن مثل هذه الوقفة يجب أن تبدأ من الآن بنصيحة للولايات المتحدة أن عقد اتفاقية أمنية مع العراق في ظل الاحتلال الأمريكي لن تكون مقبولة لا من العراقيين ولا من العالم العربي ولا من إيران وسوف تكون لها نتائجها السلبية على الاستقرار في العراق والمنطقة. صحيح أن الولايات المتحدة عقدت اتفاقيات أمنية مع عشرات من دول العالم والمنطقة ولكن الظروف والثقافة السياسية مختلفة تماما عما هو عليه الحال في العراق. ومن الممكن وقف هذه الاتفاقية إذا شعرت الولايات المتحدة أنه سوف يكون هناك اقتراب عربي من نوع جديد إزاء الحكومة العراقية الحالية. وبصراحة فإن القيادات العربية بدت خلال السنوات الماضية وكأنها لا تستطيع، ولا تعرف إلا التعامل مع قيادات من نوعية صدام حسين، أما القيادات الحالية فإنها تبدو قادمة من عالم غريب. ومثل ذلك لم يعد ممكنا استمراره، ليس فقط لأن صدام حسين قد مات ومعه نظامه، وربما الكثير من أفكاره، وإنما لأن العراق تغير بأكثر مما يقدر أي طرف عربي وآن الأوان لتعامل بناء مع هذا التغير.

وفي مقال آخر ربما نعود إلى التغيرات الحادثة ليس فقط في العراق ولكن في بقية العالم العربي أيضا، ولكن ما يهمنا هنا هو أن يكون للجانب العربي نصيب في عملية التشكيل المقبلة للحالة العراقية مهما كان المنهج الذي سيتبعه الرئيس الأمريكي. وهنا فإن اقترابا آخر ضروري من كل من إيران وتركيا على قواعد خاصة بالمصلحة، فلا يوجد لدى أي منهم مصلحة في عراق مفكك يزدهر فيه العنف والطائفية والإرهاب بقدر ما لديهم من مصلحة ألا يعود العراق لما كان عليه في عهد صدام حسين. وما يهمنا في هذه المرحلة هو أن يعود العراق دولة مستقرة يقع في ظلها إعادة تشكيل العراق بالطريقة التي يختارها أبناء العراق. وفي الأمر تفاصيل كثيرة، ولكن نرجو أن تكون النقطة واضحة !